لم تغف عيناها تلك الليلة ظل صمتها يحاكيه . تارة تعاتبه بخجل وأخرى تناديه بشوق وهي تسند رأسها على وسادته بعد أن ملأتها بعطره . تطلعت لعينيّ أمها المغمضتين وتمنت لو شاركتها غفوتها ثم ابتسمت لذاكرتها التي رافقتها في رحلة تأملها .
لم يكن بالنسبة لها أب فقط فحنانه وثقته وقربهُ منها جعلها تشعر بأنه كل شيء بل نفسها . فعاطفته نحوها مازالت تتدفق بانسياب في روحها . ربما لأنها وحيدته وربما لأنه انتظرها طويلا ومع غياب الأسباب .. الأبوة من أرقى المشاعر الإنسانية التي أحياناً لا ندرك وقعها على حياتنا إلا حينما نفقدها .
الصبر أحياناً طفلا عنيد لا يقتنع بمسك أيدينا للعبور إلى ضفة النسيان لكن الذكريات كانت دوماً تسلي دموعها وتلهيها عن الحزن وكأن لها معه حياة في عالم الأحلام الواعية .
مررت أناملها بين خصلات شعرها ومر على خاطرها ذلك اليوم الذي سخرنّ منها زميلاتها في المدرسة لأن ضفيرتها غير مرتبة ؛ وحينما ردت بانزعاج وخجل بأن أبي ضفر لي شعري تعالت ضحكاتهن الساخرة أكثر . ربما الآن أدركت إنها أخطأت وقتها الرد ولم تتقن إزعاجهن بقول إني عزيزة أبي ولأنه يحبني يفعل أي شيء من أجلي . فهي اليوم تدفع عمرها ثمناً ليعود لحظة ويملس شعرها لتنام في أحضان السعادة بدفء وجوده .
وحينما عاد ليطفأ لهيب انتظارها أفزعها بمنظر الدماء على ملابسه العسكرية وألجم صرخات الدهشة والصدمة على لسانها ليترك الدموع تخبر عن صرخات قلبها .
أرادت أن تستوعب عودته لها مبتسما وهو مضرج بدمائه ." كيف له أن يعود هكذا دون أن يهيئ لي خبر عودته " ؟ هكذا كانت تمتم في سرها وتنشد عقلها أن يصدق أنه عاد وأخيراً ؛ وتسأل قلبها أن يتوقف عن تسارع نبضاته ويهدأ ليسمح للهفتها أن تطير بها لأحضانه .
كان عطره هذه المرة مختلفا ؛ أخترق أنفاسها وملئ خلاياها برحيق الأبوة وشهد اللقاء . وبعدما سمعت صوته الدافئ بقوله " حبيبتي " لم تعد ترغب بالعتاب والبكاء لاشيء سوى التنعم بعذوبة كلماته وتوسد حضنه الآمن .
بعد لحظات ما كانت لتُحسب من عمرها لولا وجوده تذكرت سريعا والدتها فهي الأخرى لا ينقصها الشوق للقاء وقبل أن تفلت يدها من حول عنقه ؛ أخبرها بأنه قادم من أجلها فقط لأن عليه أن يعود سريعا وقال لها لولا رسائلك المستمرة ما كنت عدت!
تلك اللحظة تضاربت في دواخلها المشاعر بين سعادة مطلقة وخوف دفين .. ترى كيف سيعود ويتركها في زحمة ذهولها المشفوع بالفرح ؟ ولمَ جاء ليعود بهذه السرعة ؟ فقطع مئات الأميال من أجل لقاء دقائق لا يقنع طفلة ناضجة انتظرت أباها بقلب أم !
ولأنها أرادت أن تلزمه البقاء على الأقل ساعات . مضت لأمها وهي تبكي دون وعي تحاول إيقاظها لتقنعهُ معها بالبقاء . " ما هذا النوم العميق أرجوكِ أمي أفيقي " رددت عبارتها وهي تشعر بان جسدها يهتز من الأعلى وصوت أمها بدأ ينفذ لسمعها " أبنتي كفي عن البكاء ما بك تصرخين ؟ " . فتحت عينيها التي أمتلئت ببقايا دمع حلم غائب كان ومازال عزائها الوحيد .
إيمان كاظم الحجيمي
واحة المرأة
يعنى بثقافة وإعلام المرأة والطفل وفق طرح عصري