لا صحة لما يتداوله الناس من أن شهر صفر شهرٌ مشؤوم ومنحوس، تكثر فيه البلايا والمحن، فلا ينتقلون فيه إلى بيت جديد، ولا يشترون شيئًا جديدًا، ونحو ذلك.

إنما يأتي شهر صفر مثقلًا بما تحمله ذاكرة التاريخ من مآسٍ ومواجع، ليُشعل في القلب لهيب أحزان آل البيت، ويعيد فتح جراح لم تندمل، خصوصًا في الوجدان الشيعي، الذي ما إن أقبل هذا الشهر، تتقد ذاكرة الشجن بما يربط هذا الشهر بجملة من الحوادث الأليمة المقترنة بأهل البيت (عليهم السلام).

مع انتهاء عاشوراء، لا تهدأ الذاكرة، بل تتسع، فصفر لا يُطفئ نار كربلاء، بل يصبّ الزيت على جذوتها، لتظل مضرمةً في المآتم والقلوب،

في شهر صفر، تتجدد الأحزان واستذكار أربعينية الحسين (عليه السلام)، ويُستحضر مشهد السبايا وهم يُساقون من كربلاء إلى الكوفة فالشام، في رحلة قاسية على الأجساد والكرامات.

ولطالما ارتبط هذا الشهر الفضيل بموسم الحزن، فتتجدد الأحزان، وتُفتح الجروح، حيث يستذكر شيعةُ العالم أجمع دخولَ سبايا أهل البيت (عليهم السلام)، ودخولَ جيش يزيد بصحبة الرؤوس الطاهرة مرفوعةً على الرماح، بعد أن خمدت ألسنةُ الحق بسيف الباطل، وتُنشَر صفحةُ أحزانهم في قلوب مواليهم.

ويُضاف إلى ذلك تجددُ الأحزان بوفاة الرسول محمد خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله) في أواخر هذا الشهر، وكذلك استشهاد الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام)، واستشهاد الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام).

 

هذه التراكمات جعلت من شهر صفر "شهر الأحزان"، لا لأن الحزن غايةٌ بحد ذاته، بل لأنه تعبيرٌ عن وفاءٍ ووعيٍ لتاريخٍ ممتدٍ من الظلم والمقاومة.

تتبدّى الطقوس في هذا الشهر بشكلٍ واضح؛ فالمآتم تستمر، والأعلام السوداء لا تُنزل، والمواكب تسير في مشاهد تستبطن تمسكًا بالهوية والانتماء، من كلّ حدبٍ وصوبٍ نحو كربلاء مدينة الأحرار، في ذكرى أربعينية الإمام الشهيد، حيث غرس الإمام الحسين (عليه السلام) أول راية فيها للحرية والثورة ضد الطغيان.

إن "الذكرى ليست ماضيًا انتهى، بل فعلٌ يُستعاد ليبني الحاضر ويعيد تشكيل الضمير الجمعي"، فالحزن في صفر ليس مجرد عادةٍ موسميةٍ شعائرية، بل هو استحضارٌ للمعاني العميقة في ثنائية الغياب والحضور. إنها لحظة تأملٍ في الحاضر من خلال مرايا التاريخ.

فقلوب المؤمنين تُنعى الأمة بفقد نبيها الكريم، ويُستدعى رأسُ الحسين في الطشت، ويُبكى الحسن لكبده المسموم، وتُستذكر النفوس غرباتُ الأئمة (عليهم السلام) سبايا في ديوان يزيد لعنه الله، فإن النفس لا تكتفي بالبكاء، بل تُسائل الواقع، وتشتاق إلى عدالةٍ غُرست جذورها بتضحية سبطِ شباب أهل الجنة وأهل بيته الأطهار، وإلى زمنٍ موعودٍ يُلأم فيه الجرحُ الكبير.

ورغم سوداوية الشهر في نفوس المؤمنين، ثمة ضوءٌ خافتٌ يلوح في الأفق، فالحزن في الثقافة الشيعية ليس استسلامًا، بل نوعٌ من المقاومة الروحية، يُجسد مبادئ الحسين (عليه السلام) في شعائر ومراسيم تظهر للعالم أهميةَ الأفكار والمبادئ التي قامت عليها ثورةُ شهيدِ الحرية الحسين المظلوم (عليه السلام)، وإرساءُ العدالة ضد الظلم والجور في كل زمان.

صفر شهرُ أحزان الشيعة، حزنٌ يتوهج بالإصرار على نهج أهل البيت، مبينًا للعالم السبيلَ المستقيمَ إلى طريق الحق.

هكذا يبقى شهر صفر، لا كسائر الشهور، بل زمنًا دائريًا تعود فيه الأرواح إلى مواجعها، لا لكي تُهزم، بل لكي تُولد من جديد.