كحال معظم العوائل العراقية التي لها مراسيم خاصة في شهر محرم، كانت لنا نحن أيضًا مراسيمنا الخاصة.

فقبل أن يحل هلال شهر محرم بعدة ليالٍ، نرفع راية الإمام الحسين السوداء الكبيرة، حيث يحرص زوجي على تطريزها، وإضافة قطعة القماش مختلفة اللون فوقها (الجفيّة)، إضافة إلى (الرمانة)، وهي قطعة من النحاس غالبًا ما تكون دائرية الشكل أو بيضوية، أو تكون على هيئة كف الإمام العباس (عليه السلام)، التي يعتبرها من مكملات الراية الأساسية، فتكون محط أنظار كل من يمر من شارعنا، وتكون حافزًا للجيران لكي يخرجوا راياتهم من مخبئها وينشروها على السطوح إيذانًا ببدء شهر الحزن ومصائب أهل البيت (عليهم السلام).

لم تكن بالنسبة له مجرد قطعة من القماش، بل كانت وما زالت رمزًا للحب الحسيني الذي نبتت بذوره في قلبه منذ الصغر، وهو يتجول في أزقة الكوفة القديمة، ويحلم باليوم الذي يرى فيه رايات الحداد تنتشر في مدينته البعيدة.

قطعة قماش سوداء لا يتجاوز طولها أو عرضها المتر أو المتر والنصف، إلا أن معانيها أكبر وأطول من أن تُحصى وتُعدّ في قلبه الموالي، وفي قلوب محبي أهل البيت (عليهم السلام)، فعندما يتغلغل حب الإمام الحسين (عليه السلام) في الوجدان، يتحول إلى قصة حب لا تنتهي، وعطاء لا ينضب.

راية الإمام الحسين (عليه السلام) السوداء كانت رفيقة دربه في حلّه وترحاله طوال الأعوام الثلاثين الماضية من عمره، حملها بإصرار في أيام النظام البائد، غير مبالٍ بالخطر الذي يحيط به، وحمل معها مسجّل كاسيت وملحقاته من بطاريات وأشرطة صوتية، لتكون أنيسه في الطريق الموحش الذي كان يقطعه في البساتين والبراري البعيدة وهو في طريقه لزيارة الإمام الحسين (عليه السلام) في أربعينيته، وفي كل مرة، ينجو من موت محقق بأعجوبة.

لا ينتهي مفعول راية الأربعين حالما تنتهي الذكرى، بل كانت تُعلّق في المنزل، وتتعلق معها أماني وآمال نساء الحي ونذورهن، التي سرعان ما تتحقق ببركة صاحب الراية وسيد شباب أهل الجنة، فتمتلئ بالدنانير الورقية التي توضع عليها باستخدام الدبابيس، فتكون حافزًا له وموردًا إضافيًا يعينه على إحياء وفيات وولادات أهل البيت الأطهار (عليهم السلام)، على حد سواء.

 

في ثمانينيات القرن الماضي، كان يقطع المسافات الطويلة من البصرة إلى بابل، رغم مخاطر نقاط التفتيش والانضباطية، ليحظى بعدة ساعات من ليلة العاشر من محرم مع أطفال الحي، الذين ينتظرون حضوره بلهفة ليحيوا معه "ليلة الحجة" أو "ليلة الطباك"، على الفطرة والسجية المتبعة لديهم، أي السهر حتى الصباح تأسّيًا بأهل البيت (عليهم السلام)، لينالوا الأجر والثواب.

فيقدّم لهم الحليب الساخن والكعك الطازج، فضلًا عن أضوية الحداد الحمراء، وصوت القصائد الحسينية للملا وطن، وحمزة الزغير، وغيرهم، التي غالبًا ما تقطعها دقّات عنيفة على الباب من قبل أفراد الفرقة الحزبية، التي كانت تعفو عنه في كل مرة بعد أن وصفته بالجنون، وكان فعلًا جنونًا حسينيًا وحيْدريًا حتى النخاع، ولم يتنفس الصعداء إلا بعد سقوط النظام، ليظهر للعلن ما ترسّب في رأسه من ذكريات أزقة الكوفة القديمة، ليأخذ على عاتقه نشر راية سوداء عملاقة على سطح منزله، ويزينها بالجفيّة والرمانة قبل أيام من حلول شهر محرم الحرام، إلى جانب وضع الأقمشة السوداء داخل وخارج المنزل.

وكان زمن العولمة، وما تبعها من مظاهر ومواد غزت السوق المحلية، منها قطع القماش الملوّنة التي تحمل صورًا ما أنزل الله بها من سلطان، قد اتُّخذت بديلًا غير مناسب للراية الحسينية المباركة، فكانت الحافز الرئيسي ليتولى خياطة وتصميم رايات حسينية تليق بالإمام الحسين (عليه السلام)، ويضيف إليها من روحه، ويدفع أموالًا طائلة للطراز ليخطّ عليها بحب وألم اسم الإمام صاحب المناسبة.

فأصبحت له راية خاصة لكل إمام من الأئمة الهداة، إلى جانب راية للزهراء البتول أم الحسن والحسين، وراية لأم البنين (عليهما السلام)، وغيرها، وما زال يتقدّم مواكب العزاء الحسينية حاملًا رايته المطرّزة بحجمها الكبير في كل مناسبة، فأطلق عليه البعض اسم "حامل الراية"، لتصل رايته إلى السيدة زينب (عليها السلام).

راياته أصبحت القاسم المشترك لمعظم المواكب الحسينية من مختلف محافظات العراق، بعد أن أهدى البعض منها إلى المواكب والهيئات الحسينية دون مقابل، لتشهد له الراية السوداء على حب عظيم وعميق الجذور للإمام الحسين (عليه السلام).