طوسي وزوجته ... شراكة من نوع خاص ...
أتساءل .. كيف مضت تلك الليالي دون أن تمتد إليكِ يدٌ تكفكف بقايا الدمع وتزيل ما أرّق وجهكِ من غبار ساعات النهار المنهِكة ، ولا يرتد إليكِ صوت يقاسمكِ سكون الليل الموحش بكلماتِ دافئة تطرد مخاوفه وعتمته بعيداً ؟!
لم أختبر حقاً ذلك الشعور، فلم أَتَرَفع بعد لرتبة زوجة مقاتل ، ذهب لحماية أعراض وأنفس لا تقربهُ بشيء سوى الوطنية المجردة ، فترك لأجلهم منزلاً خلا إلا من زوجة صالحة صيرت شبابها درعاً بألف مقاتل لحماية منزلها وأبنائها .
الصعب جداً اختبار المستحيل، والأصعب هو الاعتياد عليه بقناعة ورضا ؛ لا لشيء سوى أنه تكليف منصوص بمشيئة الخالق ومنسوج مع خيوط لفائفنا البيضاء منذ أن خرجنا إلى هذه الدنيا ونحن لا نعرف سوى طمأنينة الانتماء لعتمة عالم خفي للأمومة .
بعدها وبطبيعة الحال أصبحنا نروم نهاية الحكاية، فلم نتكبد أبداً عناء تصفح أجزائها الأولى ولحظاتها البكر، وهذا إن دل على شيء إنما يدل على قصورنا، لذا بات من واجبي الاهتداء لبداية المخاض ومكنون طواعية الطواف حول المرجعية، ومرارة الرحيل الأول وصولاً إلى فوضى المشاعر العارمة التي تصدّرها الخوف مسرعاً يزف أسوأ الهواجس والخيالات .
وها أنا ذا أقف على أعتاب الحقيقة ومشارف الفردوس، أرقب لحظاتٍ مضنية أُسرِجَتْ على صهوة زوجة مقاتلة، تقاسمت مع زوجها معركته جهاداً وتضحية ؛ فأتم كل منهما واجبه على أكمل وجه فكانا خير شيعةٍ وموالين .
إنه المقاتل البطل يعقوب قاسم الشهير بـ ( طوسي ) .. وتلك هي زوجته التي بدأت حواري معها بتساؤل عن مشهد الالتحاق الأول فقالت :
كأنه حدث للتو .. لا زلتُ أرى صورته أمامي وهو يتأهب للرحيل ويقبل نحوي حاملاً حقيبة ملابسه بيده اليسرى، أهبينحني ليطبع على جبيني قبلة صامتة ويمرر يده اليمنى على رأس مولودنا الجديد، وقتها كان خوفي على مصيره المحتوم يغريني بالجفاء ويمنعني من النهوض لتوديعه ومؤازرته، حتى كأن النظر إليه أصبح مستحيلا بالنسبة لي، لأني خشيتُ أن يكون هذا اللقاء الأخير .. على هذا الجفاء ودعنا بعضنا، حيث كان التحاقه الأول بمدينة ( العوجه ) رابط فيها خمسة عشر يوماً مرت كأنها سنين ثقيلة ثم عاد بعدها فكان للقاء الأول ؛ مشاعر مغايرة وحلاوةٌ غريبة جرفت معها كل ما ترك الزعل من صدأ ، فلم تترك بيننا سوى لهفته على أطفاله وسعادتي الغامرة بعودته على قيد الحياة دون إصابة .
كان رجوعه سالماً يعلو سقف توقعاتي، غير أن ذهولي تلك اللحظة لم يدم طويلاً فقد كسرت قيوده بالعناق ودموع الفرح .
ـــ وكيف هي إذا لحظات الفراق؟
متعبة ... تركني حين كنت بأمس الحاجة لوجوده، فقد ولدتُ للتو وتزامن التحاقه مع حلول أحب الأشهر لله (شهر رمضان الفضيل) الذي مرّ دون أن تقر أعيننا بوجوده، لا أذكر أنني وطئتُ سفرة الرحمن يوماً دون دموع، وما آلمني أكثر هو تعلق أولادي به خاصة (علي وحسن)، كانوا يسألون عنه باستمرار وساءت طباعهم بغيابه، ذلك لأنهم لم يختبروا غيابه قبل ذلك، فبدأت أتحمل عبء الدورين وأنظم كل شيء وحدي لأعوض غيابه، وأحياناً تتكرر المواقف الصعبة التي تشتد بها حاجتنا اليه، كما حدث حين ارتفعت درجة حرارة رضيعي وأنا وحيدة لا أعرف ما العمل، أو كالليلة الموحشة التي انقطع فيها التيار الكهربائي حتى الفجر والجوال غير شاحن، كانت ليلة مخيفة لم تذق أجفاني طعم النوم تحت سطوة الخوف والعتمة .
ـــ كيف تسير الأمور عند انقطاع الاتصال بينكم وبين طوسي (أبو علي) في وقت الطوارئ والهجمات؟
يزداد الضغط النفسي فأبقى أسيرة ضغوط عديدة تقض مضجعي، محاصرة بعيون أطفالي الصغار التي تسألني هل سيرجع والدنا يا أمي أم لا؟ وبكلام الناس الذين يلومونه بغيابه ويبررون جهاده بأنه لا يحبنا ولا يأبه لمصيرنا بعده، ومن ناحية أخرى لا أستطيع أن أتغاضى عن براكين قلبي التي تثور خوفاً وقلقاً من فقدانه ... أتذكر في احدى الليالي المضنية عندما كان مرابطاً في جبهات القتال في إحدى القرى في ( بيجي )، استيقظتُ مرعوبة من نومي بسبب حلم أزعجني وأوجع قلبي فسهرت يومها أسبّح وأحصنه بالآيات القرآنية وأخرجت من داري فجراً صدقةً تدفع عنه المكروه وتحفظه لنا من مدافع ورصاصات العدو، والأمر الغريب أنه عاد مع حلول إشراقة الصباح متوسماً بإصابة أفقدته جزءاً من سمعه، فجلس وروى لي أنه خرج من الموت بأعجوبة هذه المرة، ومع ذلك قطع اجازته ومضى لاعتلاء السواتر مع رفاقه .
ـــ متى حانت الساعة التي ولى بها الجزع بعيداً عن أوطان قلبك، وحل محله اليقين والصبر؟
كان ذلك عندما بدأ كلام الناس يؤثر بي بأن يعقوب لا يأبه لنا ولا يخاف على عائلته وهو يترك زوجة وأربعة أطفال صغار دون حام، فأخذ الجزع مني مأخذه فاتصلت عليه وأخبرته " قد نفذ ما في جعبتي من صبر فإما أن تعود الينا أو تأتي لأولادك تتكفل بهم لأنني راحلة دون عودة ... سأعود الى دار أهلي فلم يعد بإمكاني التحمل " ، سكت لبرهة ثم صرخ : اتركيهم واذهبي .. ارحلي ولا تعودي أبداً، انتِ أقرب الي وعجزتِ عن فهمي ومساندتي في هذه المحنة العصيبة، اذهبي كما تشائين فأنا لن أساوم بديني .
أقفل الخط وتركني لعذاب التفكير والحيرة، ثم نظرت الى اطفالي ، لا يمكنني تركهم ؛ انما أردتُ ردعه عن فكرة الجهاد ليس إلا، أردته أن يعود لنا سالماً بأذنٍ واحدة أفضل من أن يعود لي جثة أهديها لتراب القبور، جن الليل وغفوت مع دموعي التي أصبحت رفيقتي مذ غادرنا، وإذا بي أرى في المنام أنني أخدم العقيلة زينب وفاطمة الزهراء (عليهما السلام) واستقبل من يأتي لزيارتهما، استيقظت وبدأت أفكر بتلك المنزلة التي أوصلني اليها طوسي، وبدأت أستدرك نفسي وانتشلها من قصورها وتقصيرها بسماع خطب الجمعة عن الجهاد وفضل المجاهدين ودور المرأة الفعال بمؤازرتها للرجل في هذا التكليف الشرعي، ومنذ ذلك الوقت وأنا أشاطره جهاده كما أشاطره الخبز والماء، أصبح يأتي ليحدثني عن المواجهات والعمليات العسكرية التي يغيرون فيها على العدو أو العكس وأنا أسمع بقلب دافئ عامر بالإيمان فقد أصبحت أعي حجم مسؤوليتي وتكليفي، لكنني خجلةٌ من الأيام الأولى فقد كنت له شريكة سوء، وخجلة أكثر من سيدتي فاطمة الزهراء وسيدتي زينب الكبرى (عليهما السلام) لأنني كنت في البدء احاول تعطيله عن نصرة مولاي الحسين (عليه السلام) وكأنني أسمعه ينادي "ألا من ناصر ينصرنا" فلا ألبي نداءه .
كانت آخر رؤياي أني ذهبتُ لزيارة السيد السيستاني (دام ظله الوارف) لأتبرك بنور وجهه، فإذا به يعرفني ويسألني عن طوسي قائلاً : كيف حال طوسي ومن يبيت معكم في غيابه؟ أجبته : طوسي لا زال يقاتل في جبهات الوغى، ولا أحد لنا غيره ليبيت معنا، لكن الله يحرسنا بعينه التي لا تنام ، ثم أخرج شيئا وأعطاني إياه وقال إذا عاد طوسي سالماً قولي له أنها أمانة لك من السيد السيستاني ... استيقظت.. ولم أعرف ما هي تلك الأمانة لزوجي هل هي حرزٌ يحفظه من شر أعدائه أم هي إشارةٌ لدنو الرحيل مع سرب الشهداء .
بهذه الكلمات انتهى حوارنا ولكن لم تنته رحلة الصبر والعزيمة وتحمل الأذى في جنب الله تعالى بالنسبة لطوسي وعائلته التي أبت إلا أن تكون شريكته في الأجر كما في الصبر .
نغم المسلماني / مركز الحوراء ( عليها السلام )
واحة المرأة
يعنى بثقافة وإعلام المرأة والطفل وفق طرح عصري