الأمير الصغير

(1)

كعادته في كل يوم ؛ يمضي إبراهيم أوقات فراغه وهو يتلو ترانيم عشقه لبلاده الجريحة ولمدينته المظلومة على ضفاف شط العرب .. يناجيه .. يعاتبه .. يبوح له بشوقه اللهيف .

ترتطم أمواج الشط بقدميه .. تحدثه .. تتجاذب معه أطراف حديث جميل بشوق .. ها هي دمعات إبراهيم تتساقط على وجنتيه .. ما هي يا ترى الأحزان التي تسللت إلى قلب هذا الأمير الصغير .. الذي لم يتخط ستة عشر ربيعا ؟ ومع ذلك تقلد إمارة الأخلاق الطيبة وسرى الأيمان منه مسرى الدم من العروق .

داعب النسيم العليل وجهه البريء الحزين ؛ فاستنشق عطر الإباء المداف بالرائحة التي يمتاز بها شط العرب مع نخيل البصرة الشامخ .. رسى هذا الخليط على ضفاف أشواق الأمير .. وأيقظ في روحه شتات حلم نثره صِغر سنه على عتبات بِره بوالديه .. لكنه عزم على المضي قدما، سيواجه والديه، لعل الله يُحدث أمرا .

مضى مدمدما مع نفسه : " ليس القاسم بأكبر مني سنا .. ولسني بأفضل منه ؛ يكفيني انه قدوتي " .

مع الأم

(2)

 عاد إلى بيته ؛ رمق امه وأبيه بنظرة بوح لم تطق خلجاته أن تكتمها ، تحدث قائلا :

ـــ  أود أن اترك دراستي والتحق بصفوف الحشد الشعبي .

نظر والديه إلى بعضهما البعض .. تسمرا في مكانهما من هول ما سمعاه من أميرهما الصغير، لم يدر بخلدهما أن ولدهما كبر وصار رجلا يريد القتال .

تحدثت امه :

ـــ  ما تزال يا ولدي صغيرا على القتال .. ثم كيف لي أن أطيق فراقك ؟

رمقها الأمير بنظرة حنان مشوبة بالعزم والرجاء بقبول قراره وقال :

ـــ  لكني لا أطيق صبرا يا أمي .. لا أستطيع أن أرى أعداء الإنسانية يعيثون فسادا في بلادي ؛ و أقف مكتوف اليدين .. أرجوك يا أمي تذكري كيف كان القاسم والأكبر عليهما السلام يقاتلان في الطف .. أ ليست هذه الحرب طف جديد ؟ وانا لست افضل منهما .. من أجلك يا أمي سأذود عن تراب هذا الوطن .. ألا تريدين أن تواسي بي سيدة نساء العالمين عليها السلام ، وتقولي لها: سيدتي هذا ولدي سار على خطى ولدك ؟ .

ترقرقت عيون أم إبراهيم وهي ترى إصرار ولدها على المضي إلى طريق الخلود والعز والشرف وقالت له :

ـــ  اذهب يا ولدي ؛ فاني راضية عنك .. سأصوغ من دعواتي لك قلائدا أطوقها بعنقك ، ومن تراتيل نوافلي تاجاً أكلل رأسك به يحفظك من عيون الأعداء ، اذهب يا ولدي في طريقك راشداً ، لكن بشرط أن تتدرب أولا ، وان لا تقتحم سوح القتال إلا وأنت على استعداد وتهيئة بدنية ونفسية حتى تلحق بأعدائك اشد الخسائر .. قفز  إبراهيم من فرحته وهو يحتضن امه التي امتزجت دموعها  بدعواتها له بالسلامة مقبلا يديها وهو يقول :

ـــ  موافق يا أمي .

مع الأب

(3)

التحق إبراهيم بأحد معسكرات التدريب ؛ ليتهيأ لإكمال مهمته على أكمل وجه .. وها هو يستعد ليطرز أمنياته على السواتر التي داعبت أحلامه ، وينقش اسمه في سجل الخلود .

حان الوقت للالتحاق بالجبهات ؛ وأصر الأب على أن يرافق أميره إلى سواتر التاجي .

كانت خطوات الأب وئيدة .. إذ تناهت إلى مخيلته صور أميره وهو وليد ثم وهو يحبو ثم وهو يدرج .. وها هو يكبر ويصر على القتال ويترك مدرسته ومدينته ورفاقه وكل الأشياء التي يحبها ويهواها .. تهامس وجع الفراق في قلب أب يرافق ولده إلى مصير معلوم ، فأما النصر وأما الفوز بالجنان .. تمزق قلبه على أميره .. لكنه يمني النفس بدنو اللقاء معه في كل مرة يحصل فيها على إجازة دورية .

قطعت السيارة مسافات طويلة وها هي تقترب من التاجي .. نظر إلى إبراهيم فرأى في وجهه أفانين الجمال التي زينها إصراره وخُلقه ورجولته التي انتفضت على طفولته .. تسامق الفخر إلى نفس أبي الأمير فانتشت روحه وانتصرت على وجع الصبابة والتردد في المضي .. ف انتصر إيمانه بعقيدته الراسخة في وجوب الدفاع عن الأرض والعرض على خطواته الوئيدة حينها .

احتضن ولده بحنوه المعهود .. يوصيه بوصايا تنفعه في حال اشتد النزال مع العدو ؛ أهداه مصحفا ليحفظه ومسبحة لكي لا يخلو ثغره عن الذكر.

ودّعه بعد أن اطمئن عليه وعلى مكانه في المعسكر، وأدار وجهه ومضى في طريق العودة بعد أن ترك قلبه مع أميره .. سمع صوت إبراهيم وهو يناديه :

ـــ  أبي .. أبي ..

التفت إلى الوراء قائلا :

ـــ  نعم يا بني .

أجاب الأمير :

ـــ  أبي أعدك أن اجلب لك راية النصر ، فلا تقلق .

آمال الفتلاوي