نظر الإسلام إلى الأسرة، وأراد صياغتها بقوالب العدل والنور والمحبة والألفة، وقد شمل أفرادها بتعاليمه وعنايته، حتى يصهرهم في أخلاقيات وسلوكيات عظيمة، يستمدونها من منهل النور: كتاب الله، القرآن الكريم، حيث ألزمه حجة على العبد ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وفق دستوره العظيم الذي لم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، فحفظ للإنسان كرامته، وكان للمؤمن حرزًا حصينًا عن الانزلاق في تيار الانحلال والفساد.
فإذا كانت الأسرة -عكس الحال المذكور أعلاه- بعيدة عن تعاليم الله، كانت النتائج وبالًا على المجتمع، وأصبح التفاقم الاجتماعي هو المحطة النهائية لبناء المجتمعات الرخيصة.
ولو سألنا اليوم عن سبب انحراف بعض الأولاد عن الجادة السليمة، مقارنةً بأقرانهم الذين لم تصهرهم موجة التغير والتقنيات الحديثة من وسائل التواصل الاجتماعي وما تبعها، وأخذوا ما هو مفيد وتركوا الغث، وحافظوا على موروثهم الفكري والثقافي، لاستنتجنا أن سبب ذلك التمسك هو قاعدة الأسرة الرصينة في ظل أبوين مربيين، بذلا أقصى جهدهما في الحفاظ على موروث أجدادهم الفكري والعقائدي، بالترغيب لا بالترهيب.
أما نفوس الأبناء الشريرة، والسائرة في سبل الغي والانحراف، فهي ناشئة من أثر عميق لها في الأسرة الأولى، وكان لذلك أحد سببين:
الأول: إما أن تكون أسرته لم تتبنى فكرًا تربويًا سليمًا، أو عقيدة وأخلاقًا، غير عارفة بالمهمة المنوطة إليها، والأمانة التي كلفت بها، وهي تنشئة الأبناء الصالحين.
الثاني: أو أنه عاش في أركان أسرة متهدمة بسبب انفصال الوالدين، فنشأ الأبن محرومًا من العطف والرعاية الأبوية، وألقى نفسه في تيارات المواقع المضللة، فتلقفته البيئة الحاضنة للانحراف من جريمة وشذوذ وبقية الأمور اللَّاسويَّة.
وما أكثر الآباء عديمي المسؤولية الذين لا يبالون بالتعاليم الدينية والعلمية، ولا يثقفون أبناءهم دينيًا وأخلاقيًا، ويصطحبون أطفالهم إلى مجالس اللهو والعبث، ويرتكبون الأفعال القبيحة أمام عيونهم النافذة، فالولد ليس سوى مرآة عاكسة لسلوكيات وتجارب من النتاج النوعي الذي انصهر في فجر حياته، بعواطفه وأخلاقه، في ذلك البيت الصغير الذي بُنيت بموجبه مرتكزاته الفكرية والأخلاقية والعقائدية، وبالتالي، فهو يعكس واقع الأسرة التي تربى في كنفها.
قال الإمام السجاد (عليه السلام): «وأعني على تربيتهم وتأديبهم وبرهم».
وهذا الدعاء للإمام السجاد يبين ثقل الأمانة على عاتق المُربِّي.
إذًا، في ظل هذه التطورات والتكنولوجيا الحديثة، بدا الجيل مسيَّرًا معها لا مخيَّرًا، تجره مجبرًا إلى مغرياتها، وأصبح بعض الأولاد بعيدين كل البعد عن معتقدهم الديني والفكري، جيل ينتعش قلبه في العزلة، يزحف إلى المدرسة بشحّ الأنفس، تاركًا والديه في صهوة القلق والحيرة.
وأصبحنا نعدّ جيلاً معوقًا غير قادر على خدمة نفسه، ولا يتقبل النصيحة، يشعر أنه في محلّ مرمى من العدو، بعد أن صوّرت له بيئة التواصل الافتراضي أن كل من يمنع وينصح هو عدو؛ المدرس قاسٍ، والجار حاسد، والأبوان متزمتان.
وهو في موضع حيرة بين الانغلاق على الموروث، وبين حب التجديد وتجريب كل ما هو جديد.
ولكن، ماذا لو كان المربي يصوغ الأفكار والعقائد الدينية ويصبّها في قوالب سهلة ومحبَّبة للولد ليشبَّ عليها، حتى إذا ما ناهز سنّ البلوغ كان قد تعوّد عليها؟ إن الابن الذي تربى في حجر والدين مؤمنين، وتلقى درس الإيمان بالله منذ الطفولة، يمتاز على الطفل الفاقد للإيمان بميزات كثيرة، حتى إنه يملك طيلة أيام الحياة روحًا أقوى، واستقامة أكثر، وأملًا أوطد.
ويتضح مما تقدم أن الأسرة لها دور مهم يدور في صالح الفرد مدار صلاحها، وتتوقف حسن صياغة الشخصية على حسن سلوك وأخلاق التربية السليمة للأسرة؛ لأنها الركيزة الأساسية، فبصلاحها تصلح البشرية، وبفسادها تفسد الأمم، ولهذا، إن كنا نريد مجتمعًا أفضل، فلابد من أن نبدأ ببناء أُسُس الفرد وأصول تكوينه، من الأسرة وإصلاحها، وتربية الناشئة ليكونوا أناسًا صالحين واعين في سائر أمور دينهم ودنياهم، وصولًا إلى الكمال الإنساني، وهذا لن يتم إلا بتوافر جهود جميع المؤسسات الحكومية، ومنظمات المجتمع المدني، وحقوق الطفل، بالإضافة إلى رعاية المربين له في داخل أسرته، الوالدين أو من ينوب عنهما في حالة فقدهما، وما يملكان من ثقافة دينية وعلمية وأخلاقية، تعينهما على تلك التربية الصالحة، فهما أول من يحصد نتاج ثمار زرعهما.

واحة المرأة
يعنى بثقافة وإعلام المرأة والطفل وفق طرح عصري