في ظهر ذلك اليوم ... لم يكن كأي يوم .. كلنا نترقب .. القلوب تخفق ؛ والصمت يسود المكان .. يوم لا ينتمي لأيام هذا الزمن .. يوم أمتد من يومِ الطف .. وكأني بالحسين ينادي " ألا من ناصر ينصرنا ؟؟؟ .. هل من ذاب يذب عنا ؟؟ " .
أعلنت فتوة الحق .. ونودي بنا للجهاد .. لم تعد قدماي تحملاني.. الأرواح حلقت في سماء العراق .. لتعلن أن الفرصة تمر مر السحاب ؛ وأنها أتت لمن سيغتنمها .. ومن يريد أن يرتقي فعليه صعود سُلم العروج .. عروج الأرواح .
ارتفعت ببصري الى السماء .. كأني أنظر للخيام المحترقة ؛ متسائلا : " لن تسبى زينب مرتين .. فخدرك أغلى من دمي" .
سارعت للاتصال بصديقي أياد ، واتفقنا على أن نتسابق لتلبية النداء ، فــ " السابقون السابقون , أولئك المقربون " .
ـــ أخي أبا حسن ؛ لابد أن نلتحق بالجهاد .
ـــ هيا بنا أخي أياد .. القافلة تنتظر .. وعلينــا أن نسرع باللحاق .
ـــ تحت اي رايــة سنكون ؟
ـــ راية لواء على ألأكبر .. وهل يليق بروحك ألا تكون الا معه ؟! .
انطلقنا للجهاد .. ولازلت أتذكر تلك اللحظات جيداً عندما ارتدينا حلــة الجهاد .. كان يمازحني وكأنه غير مبالياً بالموت .. وقعنا عليه أم وقع علينا ؛ ويهمس مبتسماً :
ـــ أنا أجمل منك يا أبا حسن ... هههههه .
ـــ وهل الجمال الا أنت ... يا أبا رقيه ؟! .
لم تكُ ساحات الجهاد كئيبة كما قد يتصورها البعض ؛ ملئى بالدم !! او كــعاصفة حمراء تلقف ما يقدم لها .. بل كانت ساحات عشقٍ .. تذوقنا فيها حلاوة حُبِ الله .. وحُب الحُسين .. وحُب الوطن .
كانت حدائقُ وردٍ ننثرها لتزهر القلوب .. وينبعث الأمل من جديد .. كلما تسامت روحٌ قطفتها ملائكُ الرحمن .. ولما تسامت روح صديقي " أياد " ؛ لم تعد الأرض تليق بذلك الوجود المقدس .. فلا بد من العروج ... عروج نحو السماء .. تاركاً لي دموع الشوق .. ذكريات .. وحنين ... ووصية يوصيني بها أن أتكفل علاج أبنته المريضة ؛ وأن أرعى تلك العائلة التي فقدت الأمان .
لم تنته قصة الحب ها هنا ! لأن العائلة التي احتضنت ( أياد ) كانت تملك رجلاً عشق الحُسين عليه السلام ليقدم ولده اليه قائلاً : " أن كان هذا يرضيك ؛ فخذ حتى ترضى "
كان أبو أياد ـــ وقبل التحاق ولده الأخير لمشاهد العز والكرامة ـــ على فراش المرض ؛ يوصي ابنهُ قائلاً :
ـــ بني .. لا تّعد هذه المرة .. قاتل دون الطيبين .. وأشفع لأباك عند الحسين .
أيُ أمنيةٍ هذه ؟! بل أيُ قلبٍ هذا الذي ذاب في عشق مولاه ؟! نعم .. تحققت أمنية هذا الرجل .. وقدم قربانه لله وللحسين .. بعد ان عرجت روح أياد للسماء .
أما أنا .. فقد بقي عليّ أن ادفن صديقي أياد قرب من سبقه من الأحبة ! فالصداقة هناك مختلفة .. فعددها وعمرها ليس بأيدنا .. إنما بعدد رصاصات الأعداء .. عاشوا معاً .. ودفنوا معاً .. وانتصروا معا ..
عُدت لأحفظ الوصية .. أوفي دينه .. أحقق أمنيته .. أزفه على أنغام قصيدة ( يا حسين بضمايرنا )) .. وأرعى ابنتيه .. ولكن .. قبل أن ينتهي مجلس عزاءه .. عدت اليه بأبيه .. حاملا نعشه اليه .. إذ كانت روح أبيه أسرع لوحقا به .. وكأنه يقول : " على الدنيا بعدك العفا " .
عدتُ بنعشه وقد توشح كفنه براية الإمام الحسين عليه السلام بعد أن أهديت لأبيه تكريماً لشهادة ولده أياد لما قدمه للوطن .
" صديقي أياد
ابتسامتك ذاتها ما زالت في أعماق نفسي .. ما زال صوتك يملئ عالمي .. وما زلت على وعدي معك .. وعهدا سنحفظ الوصية .. سنحفظ دمك الطاهر .. وسأرعى لك وردتيك كما لو اني لهما أبا .. فنم قرير العين .. وأشفع لنا .. علّــنا نلقى الحُسين " .
رقيه أياد
واحة المرأة
يعنى بثقافة وإعلام المرأة والطفل وفق طرح عصري