مستلقية على سريري ، ألتحف وشاحي الصوفي ، الشتاء قارص هذا العام، وحبات المطر تعزف لحناً لا أفهمه على شبابيك غرفتي، مشاعري غريبة ... وكأنني امرأة عجوز لملمت خريف عمرها وهي تستقبل شتاء يدق ساعات الأجل .
نعم أشعر أنني عجوز فأحياناً لا تقاس الشيخوخة بعمر السنين بل بما نتجرعه خلالها، والمرارة زينت رأسي ببضع شيب أراه يرقص نصراً لهزيمتي .
لم أزل مستلقية ، لا أقوى على النهوض ولا أفعل شيئاً سوى النظر لأحلام تناثرت أمامي مع الريح ومستقبلٍ تهاوى مع حبات المطر .
ها أنا ذات العشرين عاماً قابعة أسيرة حزني ... لا أعرف الهروب ولا أرى المخرج ، أتساءل أحياناً ... هل سأظل أسيرة ماضٍ أعمى حطم أحلامي بعكازهِ الهوجاء ، نعم أنا خائفة ; أخشى تكرار التجربة فبطبيعة الحال لا يمكن إقناع فتاة صغيرة على الخروج واللعب في يومٍ ربيعي مشمس وأغلى ألعابها سُرقت في مثل هكذا يوم مهما كان الطقس جميلاً في الخارج ... نهضتُ متكاسلة ووقفت أمام المرآة، نظرت الى نفسي ، لكني لم أجد تلك الفتاة التي كانت تنبض بالتفاؤل، بدأت أتلمس وجهي علّني أتذكر دون جدوى فانا لم أعد أنا .
آه ... تأوهتُ وألقيتُ بنفسي على فراشي مرة أخرى، منكسرة لا أشعر بشيء مما يدور حولي ، فأنا أسجن نفسي خلف قضبانٍ ازدادت قوةً بضعفي ، حاولت جاهدة استرجاع ما مضى بحثاً عن فتاة تركتها خلفي ، حتى لاح لي طيف جميل رأيتُ فيه أني ذات يوم كنت كفراشة ترقص بألوان السعادة عندما دق الجرس فأنهيت صوته المربك بفتح باب المنزل ، فإذا بها زوجة شريك والدي بالعمل ؛ تزورنا كعادتها ... فبمرور السنين نشأت رابطة صداقة جمعتها بوالدتي .
هذه المرة لم تكن زيارتها عابرة حيث تقدمت لخطبتي لأبنها البكر محمود ، كنت قد رأيته سابقاً في مناسبات عدة، أتذكره شاحب اللون قليل الكلام والحركة وكأنه يعيش عالماً آخر لا يتصل بعالمنا، والدتي ما إن سمعت طلب أم محمود بانت اساريريها وملئت الفرحة أحداقها بالموافقة ، لكنها ترددت لأنني لم أكمل الصف الخامس الإعدادي بعد ، وكذلك موافقة والدي الذي كان لا يزال خارج المنزل .
انتهت الزيارة بمجاملات الرضا والقبول ، وخرجت والدة محمود مسرورة الخاطر وهي ترجو والدتي أن لا نتأخر في زف الخبر السعيد ! فمحمود لا يملك الوقت لأنه ينوي السفر والاستقرار في لندن مع أعمامه .
دار نقاش قصير بين والديَ ، أنتج موافقة الاثنين، كانا فرِحان جداً ، قال أبي حينها أن أبو محمود صديق عمره وشريكه ولن يجد لي افضل من هذه الحياة لأعيشها .
أما أنا فلم يكن لي رأيٌ واضح أو هدف بل أخذت أردد أفكار والدتي وعباراتها دون إدراك ، بأن محمود يملك كل الصفات المناسبة فهو من عائلة معروفة ، وذا مكانة اجتماعية مرموقة ، إضافة الى أنني يجب أن أتزوج من شخص يكون من نفس المستوى الذي أعيش فيه ... أتذكر جيداً مقولتها الشهيرة التي ورثتها من جدتي رحمها الله ( لا يعيب الرجل الا جيبه ) فلم أنظر لأبعد من ذلك ... أي لأبعد من جيبه ههههه .. فعلاً شرُ البلية ما يضحك .
وفي أقل من شهرين تمت مراسم الزفاف، وأصبحت حرم السيد محمود الذي ظل كما عهدته شاحباً ... صامتاً ... متجهماً ... غامضاً .
كل ما اختلف هو المسافة بيني وبينه والتي لا استطيع قياسها بالمشاعر لأنني عندها سأعبر كل حدود الكرة الأرضية، لكنني حاولت حسابها بالأبعاد الرياضية الواقعية .
وبعد زواج دام ثلاثة أشهر لم أعد أستغرب الغموض المحيط به ، وكأنه يخفي سراً كبيراً عني ، أكيد إنه سر كبير !!! فمحمود مصاب بالسرطان ، وقد عرفت ذلك بمحض الصدفة من طبيبه الخاص، واكتشفتُ أيضاً أن هذه الرحلة التي وقّعتُ تأشيرتها من عمري ما هي إلا رحلة علاج !!! وأنا ... أنا ممرضة ليس إلا !!!...
صعقت من الصدمة ، لكني لم أخبر والديَ بأن ابنتهما الوحيدة وفتاتهما المدللة ذات السبعة عشر عاماً أصبحت ممرضة بالأجرة ، ما أدهشني فعلاً هدوئي وصبري ، ولكن ما أدهشني أكثر تعامله معي " اشتريتكِ بنقودي " ... كم أكره تلك الكلمة وكم رددها على مسامعي ...
إن تحّملي كذبة كبيرة كان لسببٍ أكبر، أما هو فلا أفهم بلادة مشاعره ...
اشتد عليه المرض ، وأصبحتُ أرعاه طيلة تسعة أشهر لا حباً به وإنما الواجب وأمانته التي أحملها داخلي .
انتهى عذابهُ بالموت بعد تلك المدة ، وأنا لا أرى نهاية لهذا العذاب، عندها عدت من حيث أتيت ، ورويت لعائلتي رحلتي بتفاصيلها المزعجة ، فأنتجت أحزانها إصابة والدتي بجلطة قلبية ، وأصبح كرسيها المتحرك يشعرني بذنب شديد يضاف إلى ما احمله من ألم .
أعيش الآن أماً عزباء لا أملك شهادة ولا حتى عمل يخرجني من وحدتي !!! لا أجد منفذاً سوى ولدي ( علي ) الذي حملتهُ عائدةً من غربة الأرض الى غربة النفس .
علي ... هو الوردة الوحيدة التي نبتت وسط كل تلك الأشواك .
أسمع كثيراً عن قصصٍ مشابهة، واتساءل لما يخفون الحقيقة ويعمون أعيننا عن العيوب، ألا يفكرون بقلوبٍ تموت وحيوات تذبل، أنا وأخريات كثر عشن كهذه التجربة (خاطب كاذب .. وأهل موهومون بالكذبة) .. شاركت قصتي كعبرة لغيري وأحسستُ أنني لم أعد أطيق صراخ يرتد الي .. ألا يُسمَعْ ؟؟!
نغم المسلماني
واحة المرأة
يعنى بثقافة وإعلام المرأة والطفل وفق طرح عصري