في غرفتي الصغيرة التي ما زال فيها شيء من طفولتي ؛ بجدرانها الوردية المليئة بصور شخصيات خيالية وعلى طاولة تطل على الشرفة ، كنت أجلس لأكتب مذكراتي حيث أعتدت أن أحتفظ بكل مواقف حياتي على الورق حفاظاً عليها من داء النسيان .
بدأت هذه العادة منذ أيام الدراسة الإعدادية واستمرت حتى بعد تخرجي من كلية الهندسة ، حيث أكتب تفاصيل يومي وأذكر كل شيء يشعرني بضرورته ، فضلا عن أي موقف أنساني يحدد مصيري ومنها علاقتي بأمي وتأثيرها الايجابي على شخصيتي ، عطف والدي وثقته برجاحة عقلي وتفكيري ، تفوقي في الدراسة وحب الناس لي ...
أعوام طويلة ولم يكتب قلمي سوى عن الحب والتفاؤل والنجاح ، حتى ذلك اليوم الذي تلبدت فيه الغيوم لتحجب سمائي الصافية ، وتصمت فيه البلابل عن شجوها ، وعوضا عن صوت تغريدها ، صرت أسمع دوي المدافع وأصوات طائرات مهاجمة ...
أنها الحرب التي جلبت معها الخوف والضياع والألم ... الحرب التي ما أن حلت على أرض إلا وخلفت الدمار لكل ما هو جميل . .. ولأننا فقدنا الأمان ؛ صرنا نبحث عن بصيص أمل ينقذنا من دوامة الخطر ، وفي لحظة خوف بعثرت الأفكار ، أتخذ والدي قرار الهجرة .
كان لأول مرة يتخذ قراره هذا ، مع تعليقة صغيرة منه بأن " القرار غير قابل للنقاش " ... عندها شعرت بخوفه علينا وبحجم معاناته بسببنا ، فلم يفكر إلا بحمايتنا والهروب بنا بعيداً عن نار الحرب ، ولكني لم أشعر بالإنصاف ، واعترضت على فكرة الهروب ... فكيف نترك أرضنا ونتقاعس عن دفع ضريبة الوطن والهوية ؟
هاجرنا بعد فترة لأحدى الدول الأوربية ، وصارت الغربة أمر واقع .
لن أتحدث عن رحلة الوصول ، بل سأبدأ بعد تلك الفترة الصعبة ، حيث صعوبة البداية وبالتحديد صعوبة التعايش مع ظروف اللاجئين ثم صعوبة اللغة واختلاف الثقافات والمعتقدات وتقبل مجتمعهم لحجابي بشيء من الاستغراب والاستنكار .
كل ما صادفته هناك كان صعب ومضني .، افتقدت وطني ولغتي وأصدقائي وبيتي وكل شيء ، وقد أكون افتقدت نفسي .
تمر الأيام وأنا أعيش هاجسا متعبا وضياعا يشتت تفكيري ، لم أتمكن من تحديد هدف لأجتهد من أجل تحقيقه ، مع أني تخرجت من كلية الهندسة ولكن لم يُعترف بشهادتي هناك ، وعلي أن أستوعب أن سقف أحلامي سينتهي بالعمل في أحد المطاعم أو المعامل ، وهذا ما لم أطيق التفكير به ، ولكن كان علي أن أفكر بمخرج يخرجني من دوامة القلق ، وأن أقوم بعمل يجدد ثقتي بنفسي التي زعزعتها الغربة ، فدرست وتعلمت اللغة بزمن قياسي وحاولت التكيف مع الوضع هناك ولكن لم أنسى ذلك الوعد الذي قطعته على نفسي بأني سألتزم وأتمسك بعلاقتي مع ألله وأحرص على حجابي وأبقى على طبيعتي متآلفة مع عاداتي ومحافظة على مبادئي ، ورغم ذلك ؛ تمكنت من تكوين علاقات طيبة مع من أحتك بهم بالعمل ولكن بحذر دون انبهار وانفتاح على مجتمعهم الغربي ؛ حيث حافظت على اتزاني بعد صراع داخلي وإصرار وبمساعدة عائلتي التي تقدم دعمها لي على الدوام .
بعد فترة من عملي في أحدى المعامل فكرت في توسيع معلوماتي الهندسية وتحقق ذلك بعد أن قدمت في أحدى المعاهد وتلقيت دورات في الهندسة ، أرهقت نفسي جداً وأنا أحاول التوفيق بين العمل والدراسة بيد أني كنت أشعر بمتعة انشغالي عن التفكير في حياتي التي قلبتها الظروف رأساً على عقب ، والتي من المجهول إلى الآن أن كان هذا التغيير لصالحي أم لا .
خلال فترة وبعد أن أنهيت دوراتي الهندسة بتقدير عال ، تمكنت من لفت نظر أستاذي بتفوقي في هذا المجال ، فقدم لي فرصة عمل في أحدى المكاتب الهندسية وبراتب جيد جدا ، ليكون عملي في المكتب بداية تعرفي على " أحمد " الشاب المغترب الذي تتشابه ظروفه إلى حد بعيد بظروفي .
تقدم " احمد " لخطبتي بعد شهر من تعارفنا وتزوجت منه وسط أجواء عائلية ينقصها الوطن ، أنجبت منه زهرتين فاطمة وتقى ، وحرصت على تربية بناتي بذات الطريقة التي تربيت بها وتنشئتهم على عاداتنا وتعليمهم لغتنا العربية لأني كنت أعيش على أمل الرجوع في يوم من الأيام .
لم أتخلى عن هوايتي في كتابة المذكرات التي شجعتني على كتابة قصتي المتواضعة هذه ، بعد ان شعرت بضرورة مشاركة تجربتي والغربة مع كل شخص مغترب أو ينوي على الاغتراب ، وهي تذكرة لكل شخص يتهم الظروف ويجعلها سببا لفشله ، فقصتي ستكون مثالا حيا على أن الإصرار يولد النجاح ، حيث أنا الأن امرأة عاملة وناجحة في مجتمع مختلف عني في كل شيء وزوجة صالحة وأم لفتاتين رائعتين وابنة بارة بوالديها والأهم من كل ذلك إنسانة مؤمنة وعبده مطيعة لبارئها .
ايمان كاظم الحجيمي
واحة المرأة
يعنى بثقافة وإعلام المرأة والطفل وفق طرح عصري