أنفاسُها عبقٌ يتنفّسُ منه الفجر ، أناملها الغائصة في الدقيق تعزفُ نشاطاً يدبُّ في روحِها المثابرة ، أوراقُ أزهارها التي اعتادت الشرب من يديها تدعو لها كل صباح وبعد أن تنتهي من سقيهن ، تفتح نار (تنورها) التي أهدتْ للشمس احمرارا ، ومن تلك النار إلى نار الطبخ لتحضِّر الإفطار والغداء معاً ، تتجه إلى أبنائها الأربعة لتهيِّئ ذهابهم اليومي إلى المدارس والجامعات ، وبعد أن تطمئن على ذهابهم تعود إلى النار الأولى لتنسج منها رائحة تملأ بيوت المجاورين ، أقراص خبزها المخملية ذات البقع الحمراء تشكّل لوحدها إفطاراً شهياً ومع انتشار الرائحة تبدأ النساء بطرق الباب لشراء الخبز الحار، وبابتسامة زهرية تستقبلهن (وتتطقس) أخبارهن حتى غدت الأم الحاضنة لهن . 

تتنقل بلا كلل بين النساء وتنورها وقِدر عجينها وتمازح هذه وتعاتب تلك حتى غدا منزلها البسيط حلقة وصل بينها وبين عالمها الخارجي تسأل عن أحوال أزواجهن في سوح القتال وتشجّع من شَكَتْ لها فراق ابنها هناك وتنصح من تعاني من أولادها ، وتساهم في حل المشكلات . وبعد أن يخفَّ عدد النساء تجلس لتعيد ترتيب غرفة رزقها متهيئة لإعداد خبز الظهيرة ، تتكئ على ذلك الجدار المجانب لنارها ومن الصمت المجاور تقصّ لها ذات اللون الأحمر قصة طفلة ترعرعت في كنف الرفاهية وشبّتْ بين جوانحها زُفّتْ كأميرة إلى بيتِ عزّها وفي حملها الرابع سرقتْ المجازر فارسها وظلتْ تربي أطفالها بعزها وإبائها بعمل يديها...
تقطع تلك السيرة دمعةً شقتْ مجراها بين قطرات العرق التي انزلقت على وجهها ، مسحتها بكفِ الصبر وهي تتجه إلى مدارس أبنائها لترافقهم في طريق العودة ، كانت تشعر بالارتياح وهي تستمع لقصصهم البريئة التي تمتزج بنشوة الطفولة فتفرح حينما تسمع من ابنتها أن معلمتها أثنت عليها وإن ابنها أعطى لصديقه قلما.. وبدورها كانت تشاركهم الحديث فتسالهم عن درجاتهم ومستواهم ..
تعود بهم إلى المنزل فتحممهم وتحضّر غدائهم وتتركهم ليرتاحوا ثم تبدأ مشوارها في عملها بابتسامة صامدة ومع غياب الشمس تجلس مع أبنائها تنصت لهم وتدرّسهم وتقدِّمَ لهم ما خبرته من هذه الحياة من نصائح وتوجيهات...
وحالما تنتهي منهم تتفرغ لوقت التواصل الروحي فتتجه إلى مصلاها لتتجه بكل جوارحها إلى ربها فتناجيه بقرآنه ثم تنهي يومها راسمة لوحة نضال في معتركِ حياةٍ ألقتْ اختبارها بقلوب نساء حصلن فيها على درجة الامتياز

 

ضمياء العوادي