انظر لها فأجدها جميلة رغم الستين من العمر ، انظر فعلها فأجد الخير كل الخير يحيط 

بشخصها الطيب ...

في عام 1982 خمنت انها امرأة مميزة ذات السبعة والعشرين ربيعا وهي ترفل بحياة هانئة في ظل رجل يعرف حقها واربعة اطفال صغار ، كانت تحب العمل وتخيط العباءات النسائية لتوفر مصروفا اضافيا ينجز لها بعض المشاريع الصغيرة في المنزل، كل ما تحلم به هو امتحان تحصل فيه على شهادة الدراسة المتوسطة لتعوض تركها للدراسة بسبب اليتم والزواج، فكانت المحنة الاولى اعتقال زوجها من قبل عصابة البعث وصودرت
املاكه ، فضاع المعيل والبيت ...

تهرب الاخرون خوفا من بطش النظام الصدامي فلم تدر الى اين مع اربعة اطفال صغار بلا مأوى، بعضهم يساومها ان تترك الاطفال لبيت جدهم وتعود لأهلها بل بعضهم حرمها ذلك لفترة وحاول جاهدا في التفريق بينهم، حتى سرقت اطفالها !!! نعم لقد اختطفتهم من باب بيتهم شوقا لتلك الانامل الناعمة ، تلك الام لم تنم بعيدا عنهم ، حتى حينما عاقبها الجميع ، لذلك  كانت تجول في طلب غرفة تؤجرها ثم سرعان ما يحوم اصحاب السوء فتغير سكنها وبين خوف ووحدة وارهاب سافرت الى بعض الاقارب في محافظات اخرى ، ولكن كيف بهذا الحال والحمل ﻻ يحمله الا اهله .

عادت لبغداد لتجد بالكاد غرفة تجمعهم فيها مع اسرة منكوبة اخرى ثم عمل بسيط صباحي وعمل مسائي ليسد الايجار والمصرف ، بأي شيء كانت تربط على قلبها وهي تترك طفلة ﻻ تتجاوز السنتان بيد اطفال اكبرهم يبلغ السابعة ! لست ادري لكني كنت ادري مشقة تلك الحياة ، حتى جاءت المحنة الثانية والانتفاضة الشعبانية والفقد والجوع والحاجة تعصف بشعب كامل فمن لبيت ﻻ معيل له غير الله ؟ ولم يصبهم نصب وﻻ وصب حتى انقشعت الغمة وكل من حولها ينصحها بأن تزوج صغيراتها او تشغل طفلها ! واصرارها هي على ان يكملن الدراسة كان محض ترف في نظر الاخرين ، حتى تعبت صحتها ودق ناقوس الخطر ، واذا ببشارة السماء ان زوجها مازال على قيد الحياة بعد سنوات من انقطاع خبره !!!

هنيئا لك البشرى والصبر والظفر ، وعلى مشارف سجن ابو غريب الذي طالما كانت تحوم حول عوائل نزﻻئه لمعرفة اي بارقة امل .

وقفت هذه المرة بثقة انه فعلا على قيد الحياة ، انه سندها وكل ما لديها ، ليته يخرج ، كم تمنت ان يستلم العائلة فقد ثقل الحمل وضعفت الصحة .

كل ذلك كان مجرد سراب ... فمع لقاءهم الاول ادركت انه وجماعته السياسيين قد تعرضوا لأبشع تعذيب وحرمان ، فهبت لنجدتهم بما يمكن من توفير الادوية والطعام والملبس حتى اكتظت حقائبها بكل ما يخطر ببال ، ليس لزوجها فهو قد اكتفى من دنياه بأيسر الامور ولكن لنجدة من ﻻ زيارة له !  .

كانت تخدمهم وﻻ تشعر انها محنة بل تشكر لله هذه النعمة ، حتى خرج من السجن لتبكي امامه بكاءا مرا تذرف معه خوف السنين .

ايه ايها العزيز ... تّسلم دفة مركبك وانطلق بأهلك فقد عز الناصر والمعين ولكن كيف لهذا الكهل ان يقف وسنوات الحصار تعصف بشدة واثار تعذيبه علّمت على صحته وجسده .

تعاونا لسنوات معدودة رزقت منه ثلاثة اطفال ثم سرعان ما توفي بالمرض في عمر السادسة والخمسين !  ومحنة اخرى بين حفظ الأوﻻد الكبار وتربية نشئ جديد مازال يحبو فاذا به يلبس جلباب اليتم والحاجة ومحنة اخرى واخرى بلا امل عودة الحبيب وهي صامدة ما كلت وﻻ ملت مذ تركت رقة الامومة لتكون رجل البيت وعمه وخاله وجده وجدته .

 اجمل ما فيها حبها للخير ومساعدة الناس ونصرة الحق وان ثقل ثمنه ، انشأت جيلا يميز الحق من الباطل لم تلبس عليهم امر ولم تصفق او تداهن او تتملق لذوي سلطة او منفعة بل كان بيتها بيت بصيرة وصبر كانت ومازالت شمعة تنير لساكنيه .

اتذكر انها كتبت الصلاة على ورقة كبيرة وعلقتها في سجادتي ﻻ تعلم الصلاة حين تكون خارج المنزل اتذكر انها قالت لي ان والدي مجاهد والحاكم ظلمه فزرعت في افتخاري الذي صمدت به امام المنافقين .

تصدقت علينا بعمرها لنكون صدقتها الجارية فهنيئا لأم الايتام ... امي .

 

لبنى مجيد