(الحلقة الرابعة)
من الأكاذيب والموضوعات التي وضعت في تأريخنا الإسلامي وأريد منها النيل من قداسة بنات الرسول هي رواية زواج فاطمة بنت الحسين (عليهما السلام) من عبد الله بن عمرو بن عثمان وهي رواية موضوعة بلا شك كما أشارت إلى ذلك كل الدلائل التاريخية والعقلية فهي (عليها السلام) لم تتزوج بغير ابن عمها الحسن المثنى ابن الحسن السبط حتى توفيت كما سنوضح في هذا الموضوع.
زواجها
جاء الحسن المثنى بن الإمام الحسن السبط بن علي بن أبي طالب إلى عمه الإمام الحسين (عليه السلام) وسأله أن يزوجه إحدى ابنتيه، فقال له الإمام الحسين: اختر يا بني أحبهما إليك.. فاستحيى الحسن ولم يرد جواباً. فقال له الحسين: فإني قد اخترت لك ابنتي فاطمة فهي أكثرهما شبهاً بأمي فاطمة بنت رسول الله. أمّا في الدين.. فتقوم الليلَ كلَّه، وتصوم النهار, وأما في الجمال فتشبه الحور العين, فتزوجها الحسن وقد ولدت له ثلاثة أولاد هم: عبدالله المحض، وإبراهيم الغَمْر، والحسن المثلّث، وبنت اسمها زينب.
شهد الحسن المثنى ــ زوج فاطمة بنت الحسين ـــ يوم الطف مع عمه الحسين (عليه السلام) وقاتل معه وأثخن بالجراح ووقع على الأرض مغشياً عليه، ولما أراد جيش ابن سعد قطع الرؤوس وجدوا فيه رمقاً، فقال أسماء بن خارجة بن عيينة الفزاري: دعوه لي فإن وهبه الأمير عبيد الله بن زياد لي وإلا رأى رأيه فيه، فتركوه له وأخذ مع الأسرى محمولاً إلى الكوفة ووصل خبره إلى ابن زياد فقال: دعوا لأبي حسان ابن أخته وعالجه أسماء حتى برئ ثم لحق بأهل البيت في المدينة.
وكان السبب في ذلك أن أم الحسن المثنى كانت من بني فزارة وهي خولة بنت منظور الفزارية، ولكن بني أمية قد آلوا على أنفسهم أن لا يتركوا بيتاً من بيوت العلويين دون أن ينكبوه ولا علوية دون أن يثكلوها أو يرملوها أو ييتموها، فقد دس الوليد بن عبد الملك سماً للحسن المثنى فمات منه.
تجددت أحزان كربلاء التي لم تنسَ بعد وتفتقت الجراح التي لم تندمل في قلب فاطمة فقد آلى القدر عليها فراق أهل بيتها وتوديعهم واحداً واحدا، نظرت فاطمة إلى جنازة زوجها الحسن بْن الحسن ، ثم غطت وجهها ، وقالت :
وكانوا رجاءً ثم أمسوا رزيةً * لقد عظمت تلك الرزايا وجلت . .
وسلمت أمرها لله...
يد تتوارث الحقد
مات زوجها وابن عمها الحسن المثنى عام (97هـ) ولها من العمر (57) عاماً، وهنا يأتي دور آل الزبير ليزوّروا هذه السيرة الشريفة للسيدة فاطمة ويضعوا لها زواجاً ثانياً يتماهى مع أغراضهم السياسية حيث تناسل الحقد في أصلابهم فروى (الزبير بن بكار بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام): أن فاطمة تزوجت من عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان بن أبي العاص، وأنها ولدت منه أولاداً منهم محمد, والقاسم، ورقية، بنو عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان. ومات عنها عبد الله بن عمرو، فأبت أن تتزوج من بعده إلى أن توفيت عام (110هـ) أو عام (117هـ) بالمدينة المنورة وقيل في الشام وقيل في مصر!!.
الزبير الكذاب
وإن وجود الزبير وحده في الرواية يؤكد بطلانها إضافة إلى كل الحقائق التاريخية والمنطقية بصدد هذا الموضوع التي تشير إلى أن السيدة فاطمة بنت الحسين تزوجت من ابن عمها الحسن المثنى بن الحسن السبط فقط ولم تتزوج غيره لا قبله ولا بعده, أما رواية زواجها الثاني فهي موضوعة بلا شك، فالراوي كان من الوضّاعين كما أكدت ذلك المصادر، كما كان متهماً في عقيدته، ولكن شاء له الحظ أن يجد من يروج أكاذيبه وأباطيله من هو على شاكلته وهذا الأفّاق الآخر هو أبو الفرج الأصفهاني الذي امتلأ كتابه الأغاني بالأباطيل وتلقف روايات آل الزبير ودونها دون تنقيب وتنقيح.
الرواية نفسها تفند الزواج
لعل من أكبر الأدلة التي تنفي هذه الرواية هي الطريقة التي تم بها هذا الزواج الوهمي، فقد وضع هذا الكذّاب في سرد هذه الرواية طريقة تتماهى مع نفسه الدنيئة وأخلاقه الوضيعة، ولاطلاع القارئ على النفسية الخبيثة التي حملها ابن بكار، واستلزاماً للموضوع بإعطاء الصورة الواضحة على زيف هذا الزواج، سنوردها كما ذكرها أبو الفرج في الأغاني ومقاتل الطالبيين (ص202) وهي كما جاء نصها: (لما حضرت الحسن بن الحسن الوفاة جزع وجعل يقول: إني لأجد كرباً ليس من كرب الموت فقال له بعض من حضر: ما هذا الجزع تقدم على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو جدك وعلى علي والحسن والحسين وهم آباؤك؟
فقال: ما لذلك أجزع ولكني كأني بعبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان حين أموت قد جاء في مضرجتين أو ممصرتين وقد رجل رأسه يقول: أنا من بني عبد مناف جئت لأشهد ابن عمي وما به إلا أن يخطب فاطمة بنت الحسين فإذا مت فلا يدخلن علي.
قال: فصاحت به فاطمة: أتسمع, قال: نعم
قالت: أعتقت كل مملوك لي، وتصدقت بكل مملوك لي، إن أنا تزوجت بعدك أحدا
فسكن الحسن، وما تنفس وما تحرك حتى قضى (رضوان الله عليه)
فلما ارتفع الصياح، أقبل عبد الله على الصفة التي ذكرها الحسن فقال بعض القوم: ندخله وقال بعضهم لا ندخله
، وقال قوم: وما يضر من دخوله؟
فدخل وفاطمة رضوان الله عليها تصك وجهها، وتلطم فأرسل إليها وصيفاً كان معه فجاء فتخطى الناس حتى دنا منها، فقال لها: يقول لك مولاي اتقي على وجهك، فإن لنا فيه إربا ــ أي حاجة ــ فارفقي به فعرف فيها الاسترخاء وخمرت وجهها.
ويواصل ابو الفرج نشر أكاذيب الزبير في تشويه سيرة السيدة الطاهرة فاطمة بنت الحسين غير متأثم ولا حتى منتقد لها فيقول:
فأرسلت يدها من كمها وعرف ذلك فيها فما لطمت حتى دفن.
فلما انقضت عدتها، خطبها فقالت: كيف بنذري ويميني؟
فقال: نخلف عليك بكل عبد عبدين، وبكل شيء شيئين ففعل فتزوجته!!!
وسيأتي الرد على هذه المهزلة في هذا الموضوع بعد أن نذكر بقية مهازل الزبير هنا ونترك للقارئ المقارنة بين شخصية فاطمة العظيمة وما قاله عنها أبوها وبين هذا التصرف وحاشاها منه.
وهناك رواية أخرى من أكاذيب الزبير أيضاً رواها أبو الفرج وهي: (أن فاطمة بنت الحسين لما خطبها عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان أبت أن تتزوجه فحلفت أمها عليها أن تتزوجه، وقامت في الشمس وآلت ألا تبرح حتى تتزوجه فكرهت فاطمة أن تخرج فتزوجته)
وبعد أن يذكر أبو الفرج هاتين الروايتين المكذوبتين بدون أن تمرا على عقله يقول: (وقد قيل في تزويجه إياها غير هذا....!!!)
وماذا بعد ؟ هلا أتحفتنا بمهازل أخرى تضاف إلى المهازل والطامات الكبرى التي ابتلي بها تأريخنا ؟
ويستمر سيناريو الكذب
نحن لا تعتب على الزبير الذي كان متهماً في دينه ومتسلسلاً من شجرة خبيثة كل أفرادها كانوا من مبغضي آل النبي ولا على أبي الفرج الأصفهاني الأموي الهوى والنسب والنزعة ولكن عتبنا على من روّج لهذه الروايات الشاذة التي تتعارض مع المنطق والعقل والحقيقة التاريخية ودونها تدوين المسلمات التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ومن خلفها.
فهم يعلمون أن الزبير من الذين لا يختلف اثنان من المؤرخين وغيرهم على كذبه وتدليسه، ووضعه للحديث والرواية، كما لا يختلف اثنان على أنه كان من أشد الناس عداوة لأهل البيت.
والروايات التي ذكرها المؤرخون حول كذبه ووضعه للحديث كثيرة جداً حتى عدّه (أحمد بن علي السليماني) من زمرة من يضعون الحديث في كتابه (الضعفاء)، وليس أدل على هذا الكتاب من اسمه حيث ذكر في ترجمة الزبير بن بكار مجموعة كبيرة من أقوال المؤرخين في كذبه وتدليسه، كما وصفه السليماني بأنه ــــ أي الزبير بن بكار ــــــ (منكر الحديث).
ولم تقتصر حياة هذا الكذّاب على الكذب فقط، بل كان من الذين يبيعون دينهم بدنياهم ـــــ إن كان لهم دين أصلاً ــــ، وممن يتسترون بالدين للحصول على مآربهم فقد كان مرتزقاً بالحديث، ومن وعّاظ السلاطين كما جاء في ترجمته في كتاب (معجم الأدباء) لياقوت الحموي ما نصه: (كان ـــ أي الزبير بن بكار ــــ قد صنّف كتاباً سمّاه بـ (الموفّقيات) نسبة إلى الموفق طلحة بن المتوكل ولي العهد وفيه ما يناقض مذهبه ويخالف عقيدته الزبيرية). هذا كلام الحموي في ابن بكار، فلا نستبعد من هذا الذي يبيع عقيدته ودينه من أجل المال أن يضع ما شاء من الأحاديث.
الحقيقة تفند الزواج
إن الحقائق التاريخية تفند هذا الزواج وتكشف كذب صاحبها فهذا ابن حزم الأندلسي ينفي هذا الزواج والأولاد في (جمهرة أنساب العرب) (ج1ص37) حيث يقول في ترجمة عبد الله بن عمرو إنه لم يكن له أولاد واقتصر نسله على البنات فقال ما نصه: (وكان لعبد الله ابن عمرو بن عثمان بن عفان من البنات: حفصة، تزوجها عبد العزيز بن مروان ابن الحكم، فماتت عنده؛ وأم عبد الله، تزوجها الوليد بن عبد الملك، فولدت له عبد الرحمن، ثم مات الوليد عنها؛ فخلف عليها ابن أخيه أيوب بن سليمان بن عبد الملك؛ وعائشة. تزوجها سليمان بن عبد الملك، فولدت له يحيى وعبد الله، وتوفيت عنده؛ وأم سعيد، تزوجها يزيد بن عبد الملك، فولدت له عبد الله، ثم مات يزيد، فخلف عليها أخوه هشام بن عبد الملك، ثم طلقها ولم تلد له، ورقية، تزوجها هشام بن عبد الملك، فولدت له ابنة، وماتت في نفاسها. ولا يعلم رجل تزوج بناته أربعة خلفاء إلا عبد الله بن عمرو بن عثمان هذا).
هذا نص كلام ابن حزم ولو كان عبد الله تزوج من فاطمة لما توانى ابن حزم عن ذكر هذا الزواج والأولاد فهواه كما هو معروف يتلاءم تماماً مع هوى الزبير، كما إن فاطمة لم تكن شخصية عادية فهي من بيت النبوة الذين يود كل الناس أن يحصلوا على شرف الانتماء لهم، فلو كان هذا الزواج صحيحاً لذكرها ابن حزم قبل ذكر بنات عبد الله وحتى وإن لم تلد له.
محمد طاهر الصفار
واحة المرأة
يعنى بثقافة وإعلام المرأة والطفل وفق طرح عصري