سادَ في هذا العصرِ أنماطٌ تُغذّي معابِر الإفراطِ في تقديرِ الذّات، وتضخيمِ الأنا، بنَفْسٍ مُتَصاعدةٍ في نرجسيّةٍ منفوشةٍ مُعجبةٍ بتمايُزِها، حدَّ التّباهي بامتلاكِها لهذه السِّمَة!

وممّا عَمْلَقَ وفاقمَ تكوينَ تلك السِّماتِ الفرديّة، دائرةُ الفضاءِ الافتراضيّ، الذي أغرقَ بعضَ أصحابِ منصّاتِ التواصلِ بوَهْمِ العَظَمة.

ثمّ تأتي فُقاعةُ الذّات، التي تتّسعُ وتَتضخّمُ كلّما تألّقَ في المنصّات، وتشاركَ مع المتفرّجين من المتابعين إفصاحُ المُعجبين وأقوالُ المادِحين، فهؤلاءِ النّافخون هم صُنّاعُ الفقاعاتِ الواهمةِ لهذا العصر.

وهذا الإدمانُ في ممارساتِ التشدُّقِ بالنَّفس، وإبداءِ مقدارِ المتفاعلين بين الحينِ والآخرِ مع منصّتِه، من المُؤسفِ أنّه طالَ حتى بعضَ المحسوبين على الحساباتِ الرّساليّة.

فغابَ إخلاصها، وأُصيبت بالضّبابيّة، تلك القيمةُ الحقيقيّة، والهُدفيّةُ الرساليّة، إذ مَسَّهَا صاحبُها بداءِ التّباهي بعباراتِ الإطراء التي يستعرضُها على صفحتِه، مُتَعَطّشاً للمزيدِ من المؤيّدين المتفاعلين، وهو بذلك يُغرقُ ذاتَهُ بشرنقةِ التمجيد، ومِقْصَلَةِ الزُّهو.

وهنا نضعُ السّؤال المُتَعجّب، الذي قد يُثارُ لدى الأنفُسِ القارئة:

لمَ هذا التّسليطُ على هذه الممارساتِ الفرديّة، والتي تُعَدُّ حرّيةً شخصيّة، ما دام الفردُ لم يَعلَقْ في بَوْتَقةِ أذيّةِ الآخرين؟!

قبل استرجاعِ مرويّاتِ أهلِ العصمةِ (عليهم السلام)، وسَوقِ أقوالِ أهلِ المعرفة، في التّشديدِ على ترويضِ النفس وكبحِ جماحِها في طلبِ كسبِ لذّةٍ شهويّةٍ من اللهثِ وراءَ الوجاهةِ الدنيويّة، عبر إبرازِ الأنا الافتخاريّة.

فإنّ التّوقَ المستمرَّ لتقديرِ الذّات، والحاجةَ الدائمةَ لسماعِ الإعجاب، والتضخيمَ المُبالَغَ فيه لكلِّ إنجاز، ذلك الإفراطُ في هذه الممارسات، قد يُصيبُ المرءَ باضطراباتٍ نفسيّةٍ تُصنَّفُ في علمِ النفس: النرجسيّة، أو حُبُّ الذّات المُفرِط، وقد اتّفقَ علماءُ النفسِ في تحليلِهم لِلأنا المُتضخّمةِ على أنّ المصطلحَ يُشيرُ إلى شخصيّةٍ متمركزةٍ حولَ ذاتِها بشكلٍ مُتطرّف.

وما إن تغيبَ أخلاقيّاتُ الأنا العُليا، تظهرُ سلوكيّاتُ الأنا السُّفلى المُفرطةُ في تمجيدِ صنميّةِ الذّات، وهذا ممّا يُدمّرُ ويؤذي أوّلًا الفردَ تدريجيًّا، بعد ظهورِ أعراضِ اضطراباتِ الشخصيّةِ النرجسيّةِ الهشّة، ممتدًّا في أذيّتهِ لمحيطِه حين يَضمرُ العِدائيّةَ والغطرسةَ، خصوصًا إنْ حُوصِرَ أمامَ خندقِ نقدٍ يحومُ حولَ ذاته.

وأمّا في مقولاتِ ومرويّاتِ المعصومين (عليهم السلام)، حولَ تلك الشّجرةِ الناريّةِ، والسِّمَةِ المُوبِقةِ المُهلِكةِ لصاحبِها، فما إنْ تتسرّبَ إليه شرارةُ العُجْب، ويستحوِذَ عليه استِعظامُ النَّفس، سيخرجُ من حضرةِ المولويّةِ مَمقوتًا مَبغوضًا عندَ ربّه.

قالَ مولانا أميرُ المؤمنين وسيدُ الوصيّين (عليه السلام):

"إيّاكَ والإعجابُ بنفسِك، والثّقةُ بما يُعجبُكَ منها، وحُبُّ الإطراءِ، فإنّ ذلك من أوثقِ فُرَصِ الشيطانِ في نفسِه، ليمحقَ ما يكونُ من إحسانِ المُحسنين"

وخيرُ علاجٍ يقيكَ مَهْلَكةَ سَبَخاتِ هذا الدّاء، أوّلًا: الاعترافُ الباطنيُّ بأنّ رداءَ العُجْبِ وتعظيمَ النفسِ صفةٌ مذمومةٌ، تَضَعُ صاحبَها في موضعِ المقتِ الإلهيّ.

فدعْ عنكَ المفرداتِ العصريّةَ والدارجةَ الجاذبةَ، والتي تدفعُ بالنُّفوسِ الضّعيفةِ للاتّصافِ بعباراتِهم الخادعةِ في حُبِّ الذّاتِ المُفرِط.

ثمّ عليكَ بالرّقابةِ الدّائمةِ في تهذيبِ وتزكيةِ وترويضِ جنباتِ النّفس، واضعًا نُصْبَ عينيكَ شررَ آثارِها الدنيويّةِ والبرزخيّة، واسعَ لكبحِ جُموحِ النّفسِ حينَ تَعتريها حالةٌ من الاسترسالِ في الاستئناسِ بسماعِ المدحِ والثّناء، فضلًا عن الامتناعِ عن ممارسةِ فعلِ الاستعراضِ لمدحِ الآخرينَ لك، ونشرِه في المنصّاتِ الإعلاميّة، فهذا ممّا يزيدُ الأمرَ سوءًا في تعميقِ العرقلةِ الرّوحيّةِ لديك.

وابقَ مستذكرًا لطائفَ ووصايا السّالكين في هذا الباب، علّكَ تصلُ بالمجاهدةِ والعَونِ والمَدَدِ الإلهيّ،

ومن تلك الوصايا الأخلاقيّة: "بُنَيَّ… ما أحسنَ أن تُلقِّنَ نفسَكَ وتُقنعَها حقيقةً واحدة، وهي أنّ مدحَ المادحينَ وإطراءَ المُطرينَ غالبًا ما يُهلِكُ الإنسانَ، ويجعلُه بعيدًا عن التهذيب، وأشدَّ بُعدًا".

فلا تَشْطُطْ بالنّفسِ وتُمَجّدْها، وأنتَ تعومُ في أمواجِ العوالمِ الرّقميّةِ والافتراضيّة، ويُغَرِّرُ بكَ عُلُوُّ سُلَّمِكَ الدنيويُّ، غافلًا عن تَسافُلِ سُلَّمِكَ الأُخرويّ.