يتعلق جزء من تاريخ الأئمة عليهم السلام بنشأتهم وسنوات طفولتهم المبكرة ، وشخصيات أمهاتهم الكريمات اللواتي ولدنهم ، ولكن التاريخ لا ينقل لنا إلا مقتطفات يسيرة من سيرة أولئك النسوة العظيمات اللواتي اختارَتْهُنّ يد العناية الإلهية ليحملْنَ وسام أم " الإمام المعصوم " .

أم الإمام الجواد عليه السلام ...

الإمام الجواد عليه السلام تاسع أئمة أهل البيت ، والده الإمام الرضا عليه السلام ، وأمه أم ولد اسمها " سبيكة النوبية " ، وقيل " سكن  المريسية" ، نسبة إلى مرّيسة وهي قرية في صعيد مصر من بلاد النوبة ،  وقيل اسمها " ريحانة " ، وقيل " درة " ، و " خيزران " .

لماذا تتعدد أسماء أمهات الأئمة ؟

الملاحظ في شخصيات أمهات الأئمة عليهم السلام ، تعدد أسمائهنّ ، وهذا أمر كان وارداً في تلك العصور ، فالسيد أو المالك الجديد قد يطلق على أمته اسماً جديداً  إذا لم يعجبه اسمها الأول ، أو يكون قد تزوجها فيغيّر اسمها بما يتناسب ووضعها الجديد ، أو أنه يطلق عليها عدة أسماء في آن واحد كما هو الحال في والدة الإمام الجواد عليه السلام ، فقد سمّاها الإمام الرضا عليه السلام بـ " خيزران " إضافة لما لها من أسماء ، وما قيل من أن اسمها كان " سكينة " فهو تصحيف سبيكة على الأظهر ، وهو والذي عليه أكثر المصادر كما أن الشيخ المفيد في الإرشاد لم يتعدَّ إلى غيره .

وتكنى بأم الحسن وهي من قبيلة مارية القبطية زوج الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وعلى هذا فهي من نوبة مصر لا السودان .

صفاتها  ... 

كانت السيدة سبيكة رضوان الله تعالى عليها أفضل نساء زمانها ، وإليها أشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله : " بأبي ابن خيرة الإماء ، ابن النوبية الطيّبة الفم ، المنتجبة الرحم "  .

ويدلّ على جلالة قدرها ومكانتها ما في الخبر المعتبر عن يزيد بن سليط وملاقاته الإمام موسى بن جعفر عليه السلام في طريق مكة وهم يريدون العمرة قال : ثم قال أبو إبراهيم عليه السلام : " إني أؤخذ في هذه السنة ، والأمر إلى ابني عليّ سميّ عليّ وعليّ ، فأما عليّ الأول فعليّ بن أبي طالب عليه السلام ، وأما عليّ الآخر فعليّ بن الحسين ، أُعطي فهم الأول وحكمته وبصره وودّه ودينه ، ومحنة الآخر وصبره على ما يكره ، وليس له أن يتكلم إلاّ بعد هارون بأربع سنين " ، ثم قال : " يا يزيد فإذا مررت بالموضع ولقيته وستلقاه فبشّره أنه سيولد له غلام أمين مأمون مبارك ، وسيعلمك أنك لقيتني فأخبره عند ذلك أن الجارية التي يكون منها هذا الغلام جارية من أهل بيت مارية القبطية جارية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وإن قدرت أن تبلغها مني السلام فافعل ذلك " .

وقال الإمام الرضا عليه السلام لأصحابه في بيان فضلها : " قد ولد لي شبيه موسى بن عمران فالق البحار ، وشبيه عيسى بن مريم ، قُدّست أمٌ ولدته ، قد خلقت طاهرة مطهّرة " .

فماذا ـ بعد هذا ـ يمكن أن يضيف القلم في فضل هذه السيدة بعد أن عبّر المعصومون عن مكانتها وفضلها بهذه العبارات ؟ فهي وإن كانت جارية أم ولد إلا أن لها من الفضل والجلال والعفة والعبادة ما فاقت به نساء زمانها فكانت بذلك قرينة لإمام معصوم ، وأمّاً لإمام معصوم .

كيفية ولادتها للإمام الجواد عليه السلام ...

قصة ولادة الإمام الجواد عليه السلام ترويها لنا عمته السيدة حكيمة بنت الإمام الكاظم عليه السلام ، حيث تقول : " لما حضرت ولادة الخيزران أم أبي جعفر عليه السلام ، دعاني الرضا عليه السلام ، فقال لي : " يا حكيمة ... أحضري ولادتها ، وادخلي وإياها والقابلة بيتاً ، ووضع لنا مصباحاً ، وأغلق الباب علينا ، فلما أخذها الطلق طفئ المصباح وبين يديها طست ، فاغتممت بطفئ المصباح ، فبينا نحن كذلك إذ بدر أبو جعفر عليه السلام في الطست ، وإذا عليه شيء رقيق كهيئة الثوب يسطع نوره حتى أضاء البيت ، فأبصرناه ، فأخذته ، فوضعته في حجري ، ونزعت عنه ذلك الغشاء ، فجاء الرضا عليه السلام ففتح الباب ، وقد فرغنا من أمره ، فأخذه ، فوضعه في المهد ، وقال لي : يا حكيمة  الزمي مهده " ، ثم قالت : " فلما كان في اليوم الثالث رفع بصره إلى السماء ثم نظر يمينه ويساره ، ثم قال : " أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله " ، فقمت ذعرة فزعة ، فأتيت أبا الحسن عليه السلام فقلت له : " لقد سمعت من هذا الصبي عجباً " ، فقال : "وما ذاك ؟ " فأخبرته الخبر ، فقال : " يا حكيمة ما ترون من عجائبه أكثر "  .

لماذا أمهات أكثر الأئمة عليهم السلام من الجواري ؟!

مما يثير التساؤل أن أكثر أمهات الأئمة جوارٍ من غير العرب ، فأم كل من السجاد ، والكاظم ، والرضا ، والجواد ، والهادي ، والعسكري ، والحجة المنتظر عليهم السلام أمهات أولاد ، وقعْنَ في الأسر ، واقترن بهنَّ الأئمة عليهم السلام ، ولا يغيب عن بالنا أن مسألة الإمامة ليست من المسائل العادية حيث تستوجب الحيطة في كل ما يرتبط بولادة الإمام المعصوم وتربيته ونشأته ، وكما أن الأب ينبغي أن يكون في أعلى درجات الكمال الممكن ، فكذلك الأم وعلى ذلك قامت الأدلة ، فما هو السر في اختيار الأئمة عليهم السلام للجواري من دون الحرائر العربيات من البيوتات الرفيعة ذات المنزلة الاجتماعية ؟

والذي يظهر من خلال دراسة بعض المفاهيم العامة والقواعد الأساسية أن وراء اختيار الأئمة عليهم السلام ، الجواري أسباباً .. أهمها ثلاثة :

  1. مما لا شك فيه أن أئمة أهل البيت عليهم السلام قد أوتوا العلم بحقائق الأمور ، ومنها العلم بأحوال الناس وخصوصياتهم ، ، ولما كان الأمر يتعلق بالإمامة فلا بد من اختيار الوعاء الطاهر ، والأصل الزاكي ، والحجر العفيف الذي سيكون حاملاً وحاضناً لولي الله ، والحجة على الخلق ، وإنما وقع اختيار الأئمة عليهم السلام على هؤلاء الجواري من دون سائر النساء لعلمهم عليهم السلام بأنهنَّ قد جمعنَ شرائط الاقتران بالمعصوم عليه السلام وصلاحيتهنَّ لإنجاب الإمام المعصوم ، ومما يؤيد هذا الوجه أن الإمام عليه السلام قد يختار واحدة بعينها من دون سائر الجواري اللاتي عرضْنَ للبيع ، وقد تكون غير صالحة - بحسب المعايير المادية - للبيع والشراء إلا أن الإمام عليه السلام لا يختار غيرها ، الأمر الذي يؤكد على أن هناك تخطيطاً إلهياً متقناً لأن تكون هذه المرأة أماً للمعصوم عليه السلام ، علماً بأن المرأة التي يقع اختيار الإمام عليه السلام عليها ليست من عامة الناس ، بل من أشرف النساء ، وذات مكانة في قومها بالرغم من كونها جارية .
  2. إن من أعظم الركائز التي قام عليها الإسلام هو إلغاء الفوارق الطبقية بين أبنائه ، وقد أكّد القرآن الكريم في آياته ، والرسول العظيم صلى الله عليه وآله وسلم في سيرته على ذلك ، وكانت نظرة الدين إلى جميع الناس على أساس من التساوي ونبذ الفوارق العرقية والنسبية ، وأن المعيار في التفاضل بين الناس هو ما يتحلى به الإنسان من الإيمان والتقوى ، ومكتسباته الشخصية ، قال تعالى : (( إن أكرمكم عند الله أتقاكم )) ( الحجرات ـ 13 ) ؛ وعلى هذا ، فليس للعنصر العربي فضل على سواه ، ولكن هذا المنهج القويم الذي سار عليه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد انحرف ، وجاء بعده من أحدث الطبقية بين المسلمين ، وأحيا النعرات الجاهلية ، فميّز العرب على غيرهم ، والقرشيين على سائر القبائل ، والمهاجرين على الأنصار ، والأحرار على الموالي ، واستحكمت هذه الظاهرة بين المسلمين إلى حد كبير ، وتربت عليها النفوس ، وأصبح الذين يرون أنفسهم من سادة القوم يعدون الاقتران بالجواري عاراً لا يليق بالأشراف ، ولما كان أهل البيت عليهم السلام هم ائمة الدين أرادوا إظهار فساد هذه السياسة بإجراء عملي ؛ لذلك اختاروا أمهات الأولاد الجواري ؛ ليثبتوا أن لا فرق بين المسلمين ، وربَّ جارية أحاطتها العناية الإلهية لتكون قرينة للعصمة وأمّاً للمعصوم ، ففاقت في الفضل أي امرأة أخرى ممن لم تحظَ بهذا الشرف العظيم ، وإن كانت من أرقى البيوتات العربية بحسب الظاهر .
  1. إن مما لا شك فيه أن رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم هي الرسالة  الخاتمة ، وبعد رحيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، قد أوكلت مهمة حفظ الدين إلى ذريته ، وكما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بُعِث للأبيض والأسود على السواء ، فكذلك إمامة الأئمة عليهم السلام لكافة الناس ، ومن هنا يتضح لنا وجه آخر في اقتران بعض الأئمة عليهم السلام بنساء غير عربيات ، بل من قوميات أخرى كالفارسية أو الرومية أو غيرهما ؛ ليكون ذلك علامة بارزة على عالمية إمامتهم ، وشمولها لجميع أهل الأرض ، وأن لكل من السلالات البشرية طرفاً يوصلها بهذا الدين الإلهي العظيم ، وتلك حكمة بالغة ولطف عام لكل البشر .

    لم تسعفنا الروايات الواردة في تاريخ مراحل حياة السيدة أم الجواد إلا بالنزر القليل ، ولكن يكفيها فخراً أنها زوجة لمعصوم وأم لآخر فهذا فضل لا يهبه الله إلا لمن اصطفى من النساء .

المصادر :

  1. موسوعة المصطفى والعترة / الحاج حسين الشاكري .
  2. موسوعة الإمام الجواد / السيد الحسني القزويني .
  3. فاطمة المعصومة / محمد علي المعلم .
  4. أعلام الهداية / المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام .

 خديجة أحمد موسى