لطالما كانت فكرة الأبيض والأسود ترافقني، لم أكن أحبذ الحلول الوسطى، وطبعًا هذا ليس مدعاة للفخر لأنها ليست طريقة ذكية أبدا لإدارة الحياة، تعلمت مُكرهةً أن هناك تدرّجات للرمادي يمكن التنقل بينها بانسيابية ويُسر بل وقد تكون في كثير من الأحيان أكثر طواعية من الوصول للدرجة الخالصة من الأسود أو الأبيض، وهذا مفيد في حالات كثيرة.

ولكن مهما حاولنا تطويع طبيعتنا نلقاها تتمرد علينا في ظروف عديدة، فيغدو التطرف سيد الموقف والعناد إن صح التعبير القائد والقبطان، مثل قرار لا عودة عنه، أو باب تقفله بإحكام دون مواربة، أو کلام تتفوه به بصدق دون مجاملة، أو موقف بسيط تبني على أساسه سلسلة من التعاملات اللاحقة. وبالمقابل ما يأتيك يكون متطرّفًا كذلك ولا وسط فيه، فتجد الأفراح تدق بابك دفعةً واحدة أو الصعوبات تتحد لتصل إليك من كل حدب وصوب وتتصف علاقاتك الاجتماعية بالتأرجح المزعج بين المتانة والوحدة، حتى المرض يأتيك متطرفًا نتيجة لميلك لجانبٍ واحد من الطعام؛ فيقعدك دون حراك هازئاً بعمرك وجسدك ومناعتك التي تتفاخر بها.

لقد قيل لي مرات كثيرة وبطريقة تحذيرية حيناً، وتوبيخية أو ناصحة في أحايين أُخر، أن أخرج من دائرة الرمادي، وصُوروها على أنها دائرةٌ من لهب ستحرقني حين أُطيل المكوث فيها. وشُجّعت من ناحية أخرى أن أجد أرضاً تتشح إما بالسواد الداكن والخالص وإما بالبياض الناصع الذي لا تشوبه شائبة، قيل لي إنها أراضٍ آمنة لا ضرر فيها ولا ضرار وإنني فيها سأجدُ السكينة والسلام المطلق، ولكن مما كان يُثير الغرابة إنني كنتُ استمع لهم بينما أنا هناك في أرضي الرمادية بكافة تدرجاتها، مبتهجة اكثر منهم وهم ينحصرون في اقصى زاوية في سوادهم او بياضهم، وكان قلبي يكادُ يطير لخفّته.

إنها برمجيات غريبة تنطلق من رؤى فردية ويُراد بها التعميم التام، كأن الجميع يسير وفق نظام تشغيل من ذات الإصدار، لماذا تُرى المناطق الرمادية بانها ساحات للقتال والنفاق! بينما أراها خُلاصة التوازن والنضج ومعرفة مفاتيح الذات، فبين إنهاء علاقة مع صديق بشكل قطعي وبين التملق والمجاملة الزائفة، هنالك حفظٌ للود والتعامل بمحدودية وتبادل التحايا! وبين الطعام الساخن الذي يحرق اللسان والبارد الذي لا تستسيغه النفس هنالك طعامٌ دافئ يطيبُ أكله، وبين (نعم) المتهورة و(لا) القاسية هنالك (ربما) ناعمة تمهّد للقرار المتأني، الوسطية هي المعادلة الأكثر نجاحاً في عالمٍ يصدح بالتناقض المتعِب والتفاوت بين الاستعلاء المتعجرف والدنو المُخزي، بين السيارة الفارهة حدّ البذخ ولقمة العيش التي تُكتسب بشق الأنفس، إنها منطقة آمنة يحافظ بها المرء على ما كسبه من قيم وأخلاق ومبادئ، منطقة تحميه من الانجراف نحو تيارات مخيفة تدعو للتبجّح بالسواد او البياض مجّرمةً ما تدرج بينها من ألوان.

لا يصح القول بأن الرمادية يمكن أن تكون منهج حياة، فلا بد من القرارات الحاسمة والصريحة في الكثير من المراحل الحياتية، لكن القول هنا هو أن السهولة واليسر في تقبل العيش في منطقة ليست واضحة المعالم ليس امراً جلل، ففي النهاية لابد من ضوء سيوضّح كل شيء، المهم أن لا نأنّب انفسنا لأننا لم نقرر بعد، فاعتدال الربيع يشجّع الفراشات على التحليق والابتهاج ويُبشّر ببدايات تستحق العيش.