كانت الشمس تفكّر بالتنحنح عن كبد السماء ولكنّها ما زالت مكشّرة تجاهد أن ترشق بأشعتها رؤوس البشر والشجر والبنايات العالية في الشارع المجاور.

كنتُ مستلقٍ على الأرض في غرفة لا تتجاوز مساحتها العشرين مترًا نعيش أنا وأمّي خيّاطة العباءات الفاخرة إذ لم يمرّ يوم إلا ويعجّ فيه بيتنا المتواضع بالكثير من صاحبات الأناقة والجاه يبتغين الشيرازة الدقيقة حسب أصولها التراثيّة الموروثة والدالّة على أصالة المرأة الكربلائيّة التي لا يرضيها إلا الدقّة والإتقان في شدّ الخيط و حشد الغرز، ولكن كان هذا في الزمن الجميل الذي ولّى وخلّف الذكريات، فقد تبدّلت أحوالنا ولم تعد كالسابق، كنتُ أتقلّب على الجهة الأخرى كلّما شعرتُ بالحرارة تنهشني من الأسفل وأنا أفكّر بشيء يمكن بيعه من أجل تهيئة المال لشراء دواء أمّي، أدرتُ النظر من حولي، كانت الثلّاجة تصارع بمضض مصدرة صوتًا متناوبًا من أجل تبريد كاسات الماء وأربع بيضات وشيء بسيط من الخضار على الأغلب لا يحلّ ثمنها الزهيد معضلة، مبرّدة الهواء أيضًا كانت قابعة وسط الحوش منذ ستّة أعوام وبدت عليها الشيخوخة، أمّا الفراش الأحمر بهَتت ألوانه وضاعت حرفيّة نقوشه الملتوية كما أنه مهترئ من جوانبه.

بدأت أمورنا تتدهور يومًا بعد يوم منذ اعتزلت أمّي العمل، أمّا أبي فقد توفّي إثر حادث مؤسف عندما كان يقود سيارة البيك آب والتي يحمل فيها المياه النقيّة من المصفى من أجل بيعها على أهالي المدينة، فبقيت وحيدًا أصارع بأعوامي الأربعة عشر الدنيا التي كانت تتقن قرض مخالبي كلّما نمت وصار بإمكانها الصيد حتّى بلغت الثانية والعشرين من العمر.

كنتُ كاتبًا أكتب المقالات وبعض العواميد الصحفيّة التي أصبحت غير صالحة للاتّكاء، أتلاعب بالحروف لأجعل منها شيئًا مفيدًا له ثمنٌ يغني من جوع، فكّرت مليًّا بالأمر قبل أن أقدم عليه فقررتُ يومها أن أدمج الحروف وأصيغ الكلمات، أمسحها وألمّعها وأنحتها لتبدو تحفة فنيّة وأعرضها لمن يحتاج، الكلمة تشكّل الخطوة الأولى والأصعب للقيام بكل العقود وعليها تقف ديمومة الحياة لا بدّ أنّها ثمينة جدًّا فقد ذكرها الله عزّ وجلّ في كتابه إذ قال: (مثل كلمة طيّبة كشجرة طيّبة) بمعنى أنها تعطي ثمارًا ، وللثمار ثمن دومًا، هذا جميل! سوف أجني من هذا العمل الهائل مالًا أسدّد به ثمن الدواء فقد اشتدّ المرض بأمّي وقرب موعد علاجها مرّة أخرى، كانت عيناها غائرتين تغوصان في وجه يائس، محاطتان بهالة سوداء والكثير من التجاعيد التي بانت بوضوح أكثر بالفترة الأخيرة، تُغطّي رأسها آخر الشعيرات التي تمسّكت بالحياة رغم جرعات الدواء المشؤومة التي قضت على باقي الخصلات، ترتدي ثوبها المبرقش الذي طالما نشّفت به كفّيها وهي تعصّب شعرها الوفير عندما تستعجل في أمرها قبل استقبال الزبائن.

كانت تتأوّه تارة وتشكو قدرها الألثغ لكلّ الأولياء والصدّيقين، ثمّ تصارع شياطين الموت بصمت تارة أخرى.

ذهبتُ إلى السوق ووقفتُ على قارعة الطريق أنظر إلى الغادي والرائح، أخذ الهواء الجافّ يتلوّى بين أغصان شجرة النارنج الممتدّة بجوار الياسمينة المطلّة من على جدار متهالك وقفتُ تحته أحتمي من حرارة الشمس، مرّ من أمامي شابّ يرتدى بدلة سوداء فخمة أفرغ على نفسه قنّينة عطر فرنسي ملأ شذاه الأرجاء، بدا مرتبكًا يحاول حلّ مشكلة، اقتربت منه وقلت له:

-          مرحبًا أيّها الشابّ الوسيم، أنا أبيع الكلمات ويبدو أنك على موعد مهم فهل تحتاج شيئًا منها؟

-          نظر إليّ بتعجّب وقال:

-          كيف عرفتَ بذلك ؟ هل أنت بشر أم ملاك؟ أريد أن أذهب لخطبة فتاة تعرّفتُ عليها في العمل ولا أعرف كيف أبدأ؟

-          ابتسمتُ ابتسامة عريضة فقلتُ:

-          هذا بسيط ، يمكنك أن تبدأ هكذا، وبدأتُ أشرح له كيف عليه أن يكون مهذّبًا ويراعي أصول الاحترام وفنّ الأتكيت ليحظى بما يريد، تحدّثنا ساعة شكرني بعدها وهو يقول:

-           لقد غيّرتَ حياتي كنتُ أخشى القيام بهذه الخطوة ثمّ أوشك على الرحيل، قلتُ له:

-           لكنّك لم تدفع ثمن ما علّمتُك من كلمات، نظر إليّ نظرة متهكّمة وهو ينفض ما علق بثيابه من تراب ثم قال:

-          لقد أعطيتني كلمات وأعطيتك كلمة فقلتُ لك: شكرًا، ماذا تريد أكثر من ذلك؟! ثمّ ابتعد بخطوات بطيئة ما لبثت أن تسارعت حتى تحوّلت إلى هرولة وقد غاب بعد عطفة الطريق.

 جلستُ على بسطة وأمامي لافتة كتبتُ عليها: أبيع الكلمات لمن يحتاجها، ترمقني الشمس بأشعّتها الحادّة ويدغدغني النمل الآخذ بالصعود على يدي تارة ووجهي تارة أخرى.

لمحتُ من بعيد صبيًّا على كرسيٍّ متحرّك، ينظر يمنة ويسرة وأمّه بالقرب منه تحادث صديقتها، أشرتُ له بيدي وقمتُ من مكاني و توجّهتُ نحوه مخاطبًا:

مرحبًا أيّها الصبي كيف حالك ؟

ولكنه لم يُجبني، ففرحت!

إنه لا يستطيع أن يُعَبّر؛ لقد ترَكَته الكلمات وذَهَبت في طريقها فقلتُ له :

-          حسنًا لا بأس، أدركُ أنّك لا ترغب بالكلام ولكنني سأتحدّث معك، انظر أنا أبيع الكلمات وأنت تحتاج إلى الكثير منها لتبوح بما يدور في خلجك سأعلّمك كيف تتحدّث إلى الآخرين وتترك مشاعرك تفيض وتتخلّص من حملك الثقيل هذا .

ثم بدأتُ أعلّمه كيف عليه أن يقرأ ثم يقرأ ثم يقرأ .. وكيف يستطيع أن يكوّن لنفسه مخزونًا لغويًّا يُسهّل عليه الحديث عمّا قرأ ويباشر بفتح موضوع شائق، هكذا سيكتسب الكثير من الأصدقاء ويتحرّر من عزلته ويعيش الحياة بكامل وهجها وحيويّتها.

لمَعَت في عيني الصبيّ بارقة أمل، لم يتخيّل يومًا أن يكسب بعض الأصدقاء، كانت هذه الطريقة رائعة حقًا فشكرني وكاد أن يقع من كرسيّه من شدّة الفرح، عندما أراد الرحيل طلبتُ من أمّه تسديد ما عليه لقاء الكلمات التي علّمتها إيّاه ولكنها قالت:

- لا بدّ من تجربة طريقتك والتأكّد منها بعد أن يكتسب ولدي الأصدقاء وقبل ذلك لا يمكنني أن أدفع لك قرشًا، أردتُ أن أخبرها أنّني بحاجة لثمن الدواء ولكنّها أدارت وجهها نحو صديقتها مشيرة إلى جرو صغير صبغ صاحبه خصلة من شعره واستأنفَت حديثها: يا لشباب هذه الأيّام كم هم سطحيّون وكماليّون! ثمّ لوّت صديقتُها شفتيها وابتعدا عن المكان.

 كانت آخر خصل الشمس الذهبيّة تودّع أزقّة المدينة التي لم تفقد بعد صخبها المعتاد عندما مرّت امرأة بدت متعبة واهنة القوى، جلَسَت على الكرسي الخشبيّ بقربي،

فبادرتُها بالحديث:

-          تبدين منهكة سيّدتي هل أستطيع مساعدتك؟ أنا أبيع الكلمات ، أستطيع أن أعلّمك كيف تبثّين همّكِ وشكواكِ وتكسرين جدار الصمت.

أطرَقَت برأسها وقالت:

-          لم أعد أطيق العمل، أعمل في البيت وخارجه، ربّما أربعة وعشرين ساعة باليوم، فالرضيع لا يتركني أنام الليل والدوام يبدأ منذ السادسة صباحًا ثم أعود إلي البيت لأهتم بأموره.

فقلت لها:

-          إن الحياة مطبّات لا تبقى على حالها، استرخي وخذي قسطًا من الراحة وحاولي أن تتكلّمي مع أصحاب الشأن، هل أعلّمكِ بعض الكلمات التي تجعل رئيسكِ يصرف لك إجازة طويلة؟ وبدأتُ بإفهامها الطريقة التي تبدأ الحديث وتستدرجه من أجل الحصول على إجازة، فرحَت كثيرًا وشكرتني وهمّت بالرحيل فقلتُ لها:

-           ولكنّكِ لم تدفعي ثمن الكلمات، فاقتربَت منّي وهمسَت:

-           سوف نتّفق على ذلك إذا ما حصلتُ على إجازة .. وذهبت.

 أخذ المساء يهبط كئيبًا قاتمًا أكثر من ذي قبل عندما عدتُ إلى البيت، كانت أمّي تنظر ناحية الباب بتوتّر يبدو أنّ الألم قد بلغ مداه وأخذ منها كلّ مأخذ، اقتربتُ منها، أمسكتُ يديها وقبّلتهما، بدتا كقطعتي أثاث قديمتين، ولكن جميلتين وقويّتين قادرتين أبدًا على أن تصنعا شيئًا، عانقتُهما ووضعتُهما على وجهي، ثمّ أخذتُ أمسّد شعرها لأغرق رويدًا رويدًا في بحرها كسبّاح متعب، مضت الدقائق تتراكض صانعة فلسفة الساعات المهدورة، في لحظة واحدة فحسب عرفتُ فيها بما لا يتطرّق إليه التردّد أنّ شيئًا خطيرًا قد يحدث، في تلك اللحظة وبصعوبة بالغة بينما كانت تحتسي أنفاسها اللاهثة والمتلاحقة قالت:

-          تكلّم يا عمران، صوتُك يريحني..

فتحت ُ فمي ..أردتُ أن أقول شيئًا.. كنت ساهمًا بقلق فضيع وخليط مبهم من الحيرة والضياع، لملمتُ أفكاري وضغطتُ على كلّ خليّة في عقلي فتمزّقت كلّها، وكأنّ دلوًا من الصمت أُفرغ فوق رأسي، بدأت الدقائق تتقاطر من بين يدي بعنفوان غير معهود و رغم كلّ المحاولات خانتني الكلمات وذهبت بعيدًا ثمّ انسابت كالسيل وجرفت معها أمّي كنخّاس خبيث، كان هواء المبردة يضيف للمشهد دبقًا مزعجًا و يهفهف ثوبها المبرقش عندما ابتعدت تجوس عوالم الغيب في ذلك اللا مكان الصامت..