أجمل ما يميز المحلات الشعبية القديمة أنها مدن بلا سيارات حيث لا يمكن لأي سيارة ومهما كان حجمها ونوعها الولوج في أزقتها الضيقة أو ما تسمى (الدرابين) حيث لا يتجاوز عرض بعضها النصف متر وتشعر عندما تجوبها على أقدامك مضطرا كأنك تدور في حلقة مفرعة و تدخل في متاهة شبيهه بمتاهات التسلية ولكنها مع ذلك متاهات جميلة وموغلة في القدم, أبوابها الصاج القديمة تحكي سنوات طويلة من الألفة وحب الانتماء ومثلها تحكي منازلها المتلاصقة التي تبلغ مساحة بعضها 20 مترا وأكثرها مساحة مئة متر فقط.

تقودك بعض الدرابين الضيقة إلى أنماط مختلفة من المساكن فهناك منازل تتسلق سلم بسيط للوصول إليها وأخرى تحتاج إلى أن تهبط سلما آخرا للنزول إليها وبعضها الأخر يقودك بابها إلى ممرات أخرى حتى تصل إلى المنزل فتكون بمجمعها تشكيلة رائعة من التصاميم الفوضوية التي لا تملك ازائها إلا أن تمنع نفسك جاهدا من محاولة النظر إلى ما بداخلها كما تتفق أغلبها على عدم وجود أي أثر يذكر لحديقة.

ودربونة المشتقة من كلمة درب مصطلح بغدادي يُطلق على الطرق الضيقة في الأزقة القديمة حيث ورث البغداديون عادة التصغير للكلمات من الاراميين والمثير للدهشة أن جميع الدرابين في كل المحافظات العراقية متشابهة وهذا يعود لأسباب أمنية وبيئية قد لا تخطر على بال أحد منا.

يقول الباحث الدكتور علي عبد الجليل مدير متحف الحلة المعاصر: "إن تصاميم الأزقة القديمة التي غالبا ما تكون منازلها صغيرة المساحة مع داربين ضيقة ليس لها مخرج لم تكن بصورة عبثية أو عن عدم دراية أو اجتهاد فقط بل هي حالة علمية مدروسة.

فمن أهم أسباب الزقاق الضيق هو أن صيف العراق 12 ساعة في اليوم فأراد المهندس العراقي أن يوفر أكثر مساحة ممكنة من الظل في وقت لم تكن متوفرة فيه متطلبات العصر الحديث من المكيفات وغيرها وهناك حرارة قاتلة في الخارج بالنتيجة أصبحت الأزقة ضيقة حتى لا تدخل الشمس بشكل مباشر وتكثر بذلك مساقط الظل.

كما أن فلسفة الدرابين الضيقة لا يستطيع تفسيرها إلا مهندس الصوت حيث أن هذا النوع من العمارة يكسر الامواج الصوتية وبهذا أصبح العيش ممكنا في منزل مساحته 50 مترا مثلا حيث أن أصوات أفراد عائلته تكون بهذه العمارة البسيطة في معزل عن الزقاق ولا يسمع صوتهم أحد ولولا هذه الطريقة في البناء لم يكن أحد يستطيع العيش هناك من شدة الضوضاء والضجيج مع عدد كبير من الأفراد لذلك وفر العقل العراقي بيئة هادئة للعيش في تلك الازقة ومناسبة لمتطلبات ذلك العصر من خلال معالجته للصوت.

وللدرابين منفعة أخرى لا غنى عنها في ذلك الوقت وهي تتعلق بالحالة الامنية للمدن القديمة التي كانت تتعرض لغزوات كثيرة من العشائر التي كانت تهجم على شكل غزوة لذلك كانت هذه الطرق البسيطة تعيق حركة السارق الذي يحضر على الفرس خاصة في الأزقة المسدودة التي ليس لها مخرج لذلك كان وجودها على هذا الطراز الفريد هو لتأمين أمن السكان ومعيشتهم في ظل هذه الظروف.