اعتادت أمي دائماً أن تضع مقداراً من الحنطة أو الأرز اليابس أو ما بقي منه بعد الطبخ في صحنٍ صغير في فناء المنزل أو على أصص الزرع لتأكل منه الحمامات والطيور الأخرى. ومع بداية فصل الصيف القائظ، يقدّم الكثير من الأشخاص على مواقع التواصل الاجتماعي نصائح وأفكار فيما يخص مساعدة الحيوانات مثل الطيور والقطط والكلاب وغيرها وذلك بتوفير مكان يقيهم من حرارة الشمس الحارقة والأرض الساخنة في الخارج وبشكل خاص في أوقات الظهيرة، أو بوضع إناء فيه ماء في باحة الدار أو حتى في الشارع ليتسنى لهم إرواء أفئدتهم الصغيرة.

 وبالفعل أصبحت الحمامات يأتين كل صباح وكأن لديهم علما مسبقا بأن باحة هذا المنزل فيها رزقٌ لهم، فيأكلون من الحبوب ويرتوون من الماء ثم يواصلن التحليق أو يأخذن استراحة قصيرة في أصص الزرع، كما اعتادت قطة الشارع التي أصبحنا نعدّها قطتنا المدللة من الجلوس أمام الباب تنتظر قطعة دجاج أو سمك يجودُ بها أهل المنزل، ولكم تنازلت عن حصتي من اللحم أو الدجاج على الغداء لأراها تستمتع بتناولها وتتمطى بعد إنهاء وجبتها وتشعرُ بالشبع والرضا.

من المشاهد الأخرى التي تثيرُ التفكّر في كيف تُسخَّر لهذه المخلوقات أرزاقها شاهدتُ مقطع فيديو قبل فترة على أحد مواقع التواصل الاجتماعي، كان عن رجلاً يسير عائداً من البِقالة إلى المنزل وهو يحمل عبوتين من الحليب السائل في كيسٍ بلاستيكي، تعثر فجأة وسقط منه الحليب وسال كله على الأرض ووقف هو ينظر للحليب ويأسف لما حدث، خرجَت بعد ثوان قليلة قِطة من تحت سيارة مركونة في الشارع وشرعت تحتسي الحليب المنسكب على الأرض بنهَم، اقشعر بدني وأنا أتفكر بحكمة من جعل تسلسل الأحداث يكون بهذه الدقة، أن يذهب الرجل ليشتري الحليب ثم يعود أدراجه فيسقط منه ليروي قطة عابرة! وتذكرتُ على الفور قوله تعالى: (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ۚ كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ )(1)

يتهافت الناس ليضمنوا لأنفسهم الرزق الأوفر والطرق المتعددة والمختلفة للدخل المضمون، يخشون أن يقل منسوب ما يجنون من أموال، سعيهم دؤوب لتكون لهم الصدارة في كل جوانب الحياة، لا ينامون إلا وهم يفكرون كيف ستكون رحلة الكسب غداً، يتغافل الكثيرون عن مسألة أن الأرزاق كلها بيد الله وحده، وأنه لو شاء لأقعد أغنى أغنياء العالم على حديدة الفقر، ولأخذ بيد أكثر الناس فَقراً نحو الثراء، وإن الدينار الذي يدخل جيب الرجل لا يدخلُ إلا بعلمه وإرادته سبحانه.

تتنوع أشكال الرزق، فمنه ماديّ ومنه معنويّ، فلرُب كلمة أو فعل يُغنيان عن المال والذهب، فالعافية رزق، والعلاقات الطيبة رزق، والتفوق والوظيفة رزق، ووجود الوالدين رزق، وادراك هذه الأرزاق كلها والامتنان لها هو الرزق الأعظم، ولطالما اعتادت أمي أن تقول أن أكل الحمامات من الطعام الذي تضعه لهم هو رزقٌ ساقه الله لها بأن هدى هذه الطيور لتنال قوتها مما تضعه لها أمي، فلقد رزق الله أمي والحمامات كلٌ بشكلٍ مختلف، لكن كلاهما يصدُر من منهل الرزق الأوحد، رب الموجودات، راحمها ورازقها.

يقول الإمام عليّ ناصحاً وموصياً ابنه المجتبى (عليهما السلام): (واعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّ الرِّزْقَ رِزْقَانِ: رِزْقٌ تَطْلُبُه ورِزْقٌ يَطْلُبُكَ؛ فَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَأْتِه أَتَاكَ؛ مَا أَقْبَحَ الْخُضُوعَ عِنْدَ الْحَاجَةِ، والْجَفَاءَ عِنْدَ الْغِنَى)(2)

 

 

1- سورة هود / 6

2- شرح نهج البلاغة لبن أبي الحديد: ج ١٦، ص ١١٢