تعلمتُ من نبتة (الكاردينيا) التي اشتراها أخي قبل شهرين درساً عظيماً، ففي الوقت الذي أوشَكت فيه على الموت المحتّم، بعد اصفرار وتساقط أوراقها بشكل كامل، أبهرني تجددها، وفي اليوم الذي تفتحت فيه أولى أزهارها ذات الأريج الأخّاذ، رددتُ في سِري: سُبحان من (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّت)... ومنها سرح فكري لأبعاد دنيوية أخرى.

عندما تزور مشتلاً* للنباتات تجدُ كل ما تشتهي عيناك من نباتاتٍ وأزهارٍ تُبهجُ النظر والروح، نباتات مخضّرة وأخرى ملوّنة، أزهارٌ مبهجة وروائح تجلي الهمّ عن القلب. ومن المتعارف بين الجميع أن نباتات المشتل تتميز بكونها يانعة ونضرة داخل بيئة المشتل حيث تتوفر الرطوبة المناسبة واحتياجات النبات الأساسية ضمن ظروف مناخية وجغرافية ثابتة نسبياً لا تتذبذب ولا تتغير، تقررُ شراء بعض الأصناف من النباتات التي سلبت عقلك، وأنت تتخيلها كيف تنتصب في باحة الدار فيسُرُ منظرها الناظرين والضيوف، أو تلك الظلية منها التي تمنح المنزل من الداخل سروراً يشرح القلب ويجمّل أرجاء الدار.

تتغير النظرة المبتهجة لهذه النباتات حين تنتقل للمنزل، فما تلبث أن تمر بضعة أيام حتى تراها قد بدأت بالذبول التدريجي، فتتساقط الأزهار وتصفّر الأوراق وتجف الأغصان، وفي حين إن الأمر يكون مؤلماً في بادئ الأمر، ألا أن الانتظار والصبر والعناية الدؤوبة ستجعلك تشهد ولادة جديدة لهذه المزروعات، فتتبرعم وريقات خضراء يانعة من تلك الأغصان الجافة وتنمو أزهار جديدة ملونة، وهذا ما يمكن تسميته زراعياً بصدمة النبات بعد النقل، حيث يحدث رد فعل لدى هذه النباتات بسبب نقلها من بيئتها المعتادة ذات الظروف المناخية الثابتة إلى بيئة جديدة كلياً، ومن ثم فإنها تقرر أن تبدأ مرحلة جديدة من التأقلم بعد ذلك الموت المؤقت.

يتشابه بنو البشر بشكلٍ أو بآخر مع كل المخلوقات الحية الأخرى، سواءٌ ممالك الحيوان أو النبات، كلٌ لديه صفات تشترك مع الكائن الآخر، وفي مثال النباتات فيشترك الإنسان معها بخاصيّة التأقلم بعد التعرض للصدمة، حيث يمر الإنسان بمختلف الظروف الحياتية التي تضعه في حالةٍ من الذهول والكسر فيشعرُ أن لا سبيل للعودة لما كان عليه بعدها. حالات كثير مثل وفاة عزيز، الفشل في علاقة، الانفصال بعد سنوات من الزواج، السفر والاغتراب الاضطراري، عدم اجتياز السنة الدراسية، وغيرها الكثير من الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والنفسية،

كل ما يحتاج إله المرء وهو على حافة الانهيار هو أن يصبّر نفسه، وأن يتشبث بالمربع الذي يقف عليه، كيلا يخطو خطوة أخرى فتنزلق قدماه ويهوي إلى حيث لا يُحمد عقباه، ومن ثم لا يجدُ مخرجاً ويتسمر في سلسلة من الوقوع المدوي الذي بدأ من حدثٍ واحد. الصبر على المكاره أشدُ عُسراً من الصبر في أوقات الرخاء، وتجميع الطاقات للتأقلم في البيئة النفسية أو البيئية الجديدة يحتاجُ أن تكون نباتاً يهتم بالدرجة الأولى أن يبقى على قيد الحياة ويحافظ على قوة جذوره الضاربة في عمق الأرض، لأنه يعلم جلياً أن هذه الجذور هي التي ستعينه على أن يجدد وريقاته ويُزهر من جديد، ويعلّم الناس أن البقاء والخلود لوجه الله وحده.

 

 

 

 

*المشتل أو الدِّنْدَانة[1] مكان ينتج نباتات صغيرة بقصد غرسها في الحدائق والحقول والبساتين، وتتنوع النباتات التي ينتجها المشتل ما بين نباتات زينة وأزهار، ونباتات فاكهة وخضروات وأشجار الغابات.

وقد يقصد بالمشاتل المساحة من الأرض الزراعية المحمية أو المكان المخصص لإجراء عملية التكاثر والرعاية وإنتاج شتلات النباتات، حيث تزرع البذور أو عقل بعض الأصناف بغرض إنتاج الشتلات.

ويُسمَّى من يزرع الغراس والشتائل شَتَّال.