أغرتُ نُزُراً مِنَ الوَقتِ كَي أستَريح وَكانَ النَهارُ قَد انقَضى نِصفُهُ، الشَمسْ تَتوهَّجُ في كَبَدِ السَمْاءِ كَأنَّهَا كَوكَبٌ دُريٌ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيتونَة،

دَفعَتُ بِظَهري عَلى زَاويَةٍ مِنْ زَوايا حَرَمِ الإمامِ عَليٍ (عَليهِ سَلامٌ مِنَ ﷲ)، احتَبيتُ في جَلسَتي داعِمَةً ساقيَّ بِعَباءَتي، كانَت أذيالُهَا السَوداء قَدْ أضمَرَتهَا ذَريرَةُ تُرَابِ أزِقَة النَجَف المُترَعَةِ بِطينٍ لَازِبْ، وَلُهَبِ الشَمسِ أذهبَ بِلونِهَا، أخَذتُ أُقَلِبُ عَينايَ مَا بينَ زَوايا الحَرَم، مَرَّ مِنْ أمَامي صَبيٌ مُتلَّحِفٌ بِرِداءٍ أحمَرَ قَاني كَأنَهُ صَبيغٌ بماءِ الأُرجوانِ خَضيبُ وَأدمُعَهُ تُسكَبُ علىٰ وَجنتيهِ كَباقَةِ الزُهُور استَرسَلَ لًأُذُنَايَ صَوتُ أبيِهِ المُتَهَدِج وهوَ يُهلِسُ ضَحكَتَهُ وَيُخفيهَا "هَذِهِ شَمسُ النَجَف، ذَاتُ إحتِدامٍ وَآوام!"

فَعلِمتُ أنَّ الصَبيَّ قَد صَوحَتهُ الشَمسُ بِآوارِهَا وَلوحَته حَتىٰ أفحَم مِن فَرطِ البُكَاءِ

كَانت الريحُ اللهيبَة تَلفَحُ وُريقَاتُ وَجهي بِغُلظَةٍ وَجفَاء، وَتُميلُ بِعَباءَتي فَتُلصِقُهَا وَتُجَّسِمُها عَلىٰ بَدنَي تَجسيمَاً، كانَت كَفايَّ في خَضمِ صِراعٍ بَينَ إمسَاكِ وَسَط العباءَة وَبينَ إمَاطَتِهَا عَن بَدني كَي لا تَلتصِقَ عَليه فَتُشخَّصُ مَعالِمُهُ فَما نَفعُها إنْ لَم تَكُن فَضفاضَةٌ وَارِفَة، ألَفتُ وَجهي يَمينَاً ثُمَّ يَسارَاً تَثَّبتُ بِعَدَمِ وُجودِ رَجُلِ وَرائي ثُمَّ انحَنَيتُ وَقبَّلتُ مَداسَ أقدامِ العَابرينَ نَحوَ ضَريحِ أمير المُؤمنينَ تَوجَّهتُ صَوبَ قِسمِ أمَاناتِ العَتبَة العَلويَة المُقدسَّة نَحوَ شُبَّاك "فاطِمٌ أُمُ المُحَصناتِ"

أستَنبِئُهِم عَن أمَانَتي المُغيبَّة، فَيعودُ ليَ جَوابهُمُ الدَارِج "لَم نُبلَّغ عَن قِلادَةٍ كَهَذِه"

بَعد سَفري مِنَ النَجفِ لِكَربَلاء في ذِكرى وِلادَة الإمَام الحُسَينِ (عَليه السَلام) مَسَّني ظَفرٌ وَفَلاح لِنَيلِ رِفدٍ أغرَّ مِن كَف مَولاي، حَيثُ تَيسَّرَ المَسير ورُفِعَت لي عَوائِقُ العَسير لِلوصولِ لِمُتحَفِ الحَضرَة الذي يَحوي بَين مَسالِكِه نُذورَ استُخرِجَت مِن ضَريحِه المبارك، أمَوالٌ وَمَسابِح، خَواتِمُ وَ سَاعات كَان الخُدَّامُ يَهبونَها لِلزَائرينَ بِالمجَّان بِمُناسبَة الوِلادَة النيَّرَة، سَحبتُ كَّمَ عَباءَتي وَستَرتُ بِهَا كَفَّ يَدي مَخافَةً مِنْ أن تَمسَني يَدُ الخادِم إنْ اندَفَعتُ لِأخذِ هَديَة عِندَما أبصَرَني أحَدُ خَدَم المَولى وَاثِبَةٌ قُربَ البَاب وَقد مَسَّني الخَفَرُ مِنَ الحَياءْ قَام هوَ بِجَلبِ الهَديَة لي

كَانَت عُلبَة قَديمَة قَد ذَهبَ بِلونِهَا، شَمَمتُهَا، كَأنَها تَحوي نَسَماتٌ مِن ضَريحِ الإمَام الحُسَينِ، فَتَحتُهَا

فِيهَا قِلادَةٌ حَمراءٌ مَنقوُشٌ عَليهَا "يا زَهرا" حَيث كَان حَرفُ الهَمزَةِ مَفقودَاً بِسَببِ تَوالي الزَمان عَليها، أصابني تَوهُجاً وَوِداً و مَسَّرَةً بِهَا

رَكنتُ بَعدَها اتَحيَّنُ نَاقِلاتُ الحَملة لِتقلنَا إلى النَجَف بَعد أن أنهَيتُ الزيارَة

مَكَثتُ سَاعَةً.. سَاعَتان حَتى اتصَلتُ بِصَاحِب الحَملة فَصعقَني بِقَولِهِ إنَّ الحَملة قَد انطلقَت مُذ سَاعَتين! وَتبيَّنَ لي إن إحدى الأخَوات "عَفَا ﷲُ عَنها" قَد اختَلسَت مَقعَدي لذلك لَم يَستَفقِدوني، باتتْ الحيرَةُ تدبُّ في خَلجَاتِ رُوحي فتَذَّكرتُ الآية النَيَّرَة ﴿قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾

فَوَّلَيتُ وَجهي نَحوَ الضريح وَأقنعتُ يَداي مُستَقبِلةً بِبطونِهما وَجهَي لادعوا وكانَتِ القِلادَةُ بَيَّنَ كَفيَّ وُأقسَمتُ عَليه بِالطَاهِرَة بعد برهة رأيتُ نَاقِلَةً مِن نَاقِلات الحَملَةِ قَد تَخلَّفَت عَن سَائِرِ النَاقِلات وَأجَلَّت عَودَتَها لِبَعد سَاعَتين فَأخذتَ قَدماي بِالهَرولَةِ صَوبَها حَتى اضطَربتُ فِي خُطَاي، بَعد عَودَتي إلى النَجَف، وَفدتُ نَحوَ رُحَاب الصَحنِ الفَاطِمي، سَكينَةٌ مَكَثَت عَلى زَوايا الصَحن، أثقَلَني الوَسَنُ نُعَاسَاً، وَلا أذُكُرُ كَيفَ تَلقَّفَني الإغفَاءُ بَينَ خَلَجَاتِه تَنبَّهتُ بَعدَها وُعدُتُ مُسرِعَةً صَوبَ الديَار

بَعدَها لَم أرى القِلادَة، مُذ ذَلِكَ الحِين وانا أترَدَّدُ عَلىٰ قِسْمِ أمَاناتِ العَتبَة، لَعلَّ القِلادَة سَقَطت عِندَ ذَهابي لِلدَار، بَحثتُ بَين أعمِدَة الصَحن الفَاطِمي، خَلفَ سَتائِرِ حَرَمِ الإمام عَلي عَليه السلام، بَين أزِقَة الدُوُرْ

إندَثَرَت!

جَلَستُ بين أقدام الزَائرين، جَلسَتْ بِقُربي امرَأةٌ سَألَتني أنْ أقرَأَ لَها زيارَة عَاشورَاء، استَعجَبتُ ذَلِكَ مِنهَا فَلَم يَبدُ عَليهَا انَّهَا لا تَفقَهُ القِراءَة.

كَانت تُرَتِلُ مَعي، بَل وَتسبِقُني بِالكَلِمَات ومِن الوَاضِح إنَّ زيارَة عَاشورَاء مُرسَّخَة في طَيَّاتِ خُلدِها وَحفظَتهَا عَن ظَهرِ قَلب

لِفَرطِ مَا مَسَّني مِن إنهَاكٍ جَلل بِسبَة السَفرِ من النَجفِ لِكَربَلاء تمايَلتُ مِنَ النُعاس، وَاثقَلَ اجفاني الوَسن وكادَ كُتيَّبُ الزيارَة أن يَهوى مِن بَين كَفيَّ

لا اعلَم كَيف جَذَبتني تِلكَ المَرأَةٌ نَحوَ أحضَانِها، احتَبَت في جَلسَتِهَا وَدَفعت بِرأسي نَحوَ حُجرِهَا مَسدَّت يَداي المُصفَّرَة، إشتَمَمتُ طِيبَاً كَطيبِ المِسكِ مِن عَبائَتِهَا وَشميمَاً طَاهِرَاً في كَفيَّها كَرائِحَة ضَريح الإمَام الحُسَينِ

عَالِقَةً مَا بَينَ الغَفوةِ و الصَحوَةُ رَأيتُ طَيرَاً عَالِقَاً مَا بَينَ السَماواتِ والأَرضْ، غَزيرٌ رِيشُهُ ثُلاجيٌّ لَونُهُ كَلَونِ الغُيوم، في عُنُقِهِ قِلادَةٌ حَمراءٌ

بَدأ بِالارتِجَاجِ وَالحَومِ حَتىٰ تَهيأ لي إنَهُ يُهَروِلُ عَلىٰ وَجهِ السَماء، لَم يَرتَكِز حَتى أسقَطَ القِلادَةَ عَلىٰ ذَريرَة الأرض كَانت تَغورُ في التُرابِ كَبصيصٍ من الدُرِ وَاليَاقوت حَرَك الطَيرُ جَناحَيهِ قُربَ وَجهِ الأرض، وحامَ حَولَ القِلادَة كأنَهُ يُريدُ أن يَقَعَ عَلَيها، انتَشَلَها في مِنقَارِهِ وَأخذَ يَجُرُهَا وَيَجُرُهَا صَوبي، أزَحتُ بَصَري نَحوَ المَرأَةٌ، انحَنت وَقبَّلَت جَبيني، لَقفتُهَا تُدندِنُ بِدَندَنَةٍ اسمَعُ نَغمتها ولا افهَمها إلا كلمة واحدة (حُسين، حُسين) تَنبَّهتُ مِن مَنامي وَوَقفتُ مُتمايلَة كَالسَعفَةُ حينَ تُسفِرُهَا الريحُ الحَنون، إلا إنَّ مَا أمَالَ سَعفَة رُوُحي هيَ ريحُ الحُسَينْ وقلادته،

جَلَستُ عَلى رَصيفٍ مُغبَّر، رُجتَّ رُوُحي، وَاختَلَجَت عَينَايَ بِالدُمُوع، لا زلتُ أبحث عن هدية الحسين المفقودة، ندبتُ باسمه وعدتُ الى مركز المفقودات، حين سألتُ عنها أخبرني أحد المنتسبين عن مواصفاتها، جلبها إلي وأخبرني أنها كانتْ بالقرب من ساقية المياه، تلَقَّفتُهَا بِكَفٍ مُرتَعِدَة كانَتِ القِلادَةُ تَّامَةُ الأحرُف "يَا زَهراءْ"

يَبدوا أنَّ حَرَفَ الهَمزَّةِ استَحى مِنَ الوَالِدَة الطَاهِرَة فَرجَعَ عَلى أعاقبِهِ وَرُسَّخ.