تلقيت دعوة ذات يوم من احدى الصديقات لرؤية بيتها الجديد، وخلال حضوري هناك لفتت انظاري غرفة مجهزة ومؤثثة بكل أدوات التراث الشعبي العراقي، منها البسط والفرش الصوفية ذات الحياكة اليدوية، والوسائد الخاصة بها، والسماور وملحقاته وأباريق النحاس والفخاريات وغيرها من التراثيات الجميلة، وزينت جدران الغرفة بلوحات بغدادية من تراث الاهوار والشناشيل التي منحت المكان بعدا ثقافيا وجماليا يثير الدهشة والحنين.

 

امتداد للماضي

الفكرة لا تخلو من اللمسات الفنية والفلكلورية ، وباتت أغلب البيوتات يفضلن تجهيزها حسب تعبير (المضيفة) فقد أخذت هي الفكرة أيضا من احدى الصديقات التي اعتمدتها في منزلها، ليكون التراث خالدا وحاضرا ولا يمكن أن يندثر أو يموت، فللماضي امتداد وجذور والتكنلوجيا الحديثة لم تفرض وجودها نهائيا على حياتنا، بل ما زال الحنين يأخذنا إلى ماضينا العذب وإلى كل حيثياته وادواته، فيشعرنا بالارتباط المتين معه ومع كل أدواته وأشكاله.

 

الماضي العذب

تقول (مضيفتي) "وظفت شغفي بالفلوكلوريات من خلال جمع المقتنيات القديمة مثل الفانوس واللالة وطابك الرغيف والسجاد العراقي ذو الالوان الزاهية، ولم انسَ أبدا تزيين احدى زوايا غرفة الجلسة العربية التي خصصتها في منزلي بـ"السماور" لغلي الماء وعمل الشاي العراقي الداكن، وكنت أسعد بما اقتنيه، واشعر بالراحة وأنا اجلس لساعات في هذه الغرفة التي تمنحني الدفء وتذكرني بأهلي واجدادي وبكل ماله صلة بالماضي الأثير".

 

رقي وجمال

تلك الغرفة العراقية المتواضعة متحف صغير ضم كل ما هو تراثي أصيل حيث لا تخلو زاوية أو حائط في هذا الجزء من بيتها من تصميم يعيد احياء التراث العراقي ففيه توجد المروحة اليدوية المصنعة من سعف النخيل، بينما في زاوية أخرى زينت بصور خاصة بالمناطق الاثرية والقديمة في العراق، فتلك الاشياء العراقية الاصيلة أصبحت حاجات أساسية لتعميق الشعور لدى الجيل الجديد بمدى رقي وجمال هذا الإرث لاسيما بعد أن أصبح توجه معظم الشباب إلى ما يطلبه عصر الحداثة والتكنولوجيا.

 

أصالة واعتزاز

 

(الي ماله ماضي ماله حاضر) مثل شعبي ومقولة حقيقية سمعتها عشرات المرات من والدي (رحمه الله) في الأيام الجميلة الممتلئة برائحة الأجداد وجمال العلاقات الأسرية والحياة الاجتماعية المتمثلة بأواصر الأخوة والاعتزاز بالجار وروح التعاون التي لا نراها اليوم في المجتمع إلا قليلا، وقد تمسكنا بالماضي الجميل محاولين تعريف الجيل الحالي من ابناء الاسرة بأصالة التراث العراقي وروعة الصناعة العراقية سابقا التي كانت تصمم تلك المقتنيات بحرفية عالية نفتقدها اليوم في الاسواق بالرغم من انتشار البطالة وتزايد أعداد العاطلين عن العمل، مع وجود المصانع العراقية لكنها غير مفعلة".

نسبة الاقبال

وسط الحديث عن الفلكلوريات والتراث والحنين لكل الماضي البديع رأينا أن نسبة اقبال النساء أكثر من الرجال على شراء تلك الأغراض التي تربطهن بالزمن الجميل على حد قول أكثرهن، يقابلها نسبة شراء لا بأس بها من قبل الشباب، لكن تزداد قوة الشراء من قبل كافة الفئات العمرية ومن كلا الجنسين في المناسبات الدينية أو الزواج للتحضير ل"كوشة المهر والحنة" وحتى العرس، والشيء الجميل في ذلك هو فتح قناة تواصل بين الماضي والحاضر، ما يسهم في الحفاظ على التراث العراقي من الاندثار.

 

ايقونة

الهوية العراقية بمثابة جسر يصل بين العراقة والعصر الحديث، ولأنها احتفظت بأصالتها امتدت إلى زمننا الحاضر، وكونها ثقافة جيل لم تفقد طعمها ولن تضيع حكايات الأجداد وقيمهم ومبادئهم.. ومن هنا أُحيي كل يد وفكر تمكن من استرجاع عطر الماضي ولو بلمسة فلكلورية صغيرة، وأفرد لها جانبا مميزا في منزله، لتكون ايقونة ورمزا يذكر الأجيال بالماضي العذب بكل القصص والحكايات الساحرة التي روتها لنا الأيام بمنتهى البساطة والجمال.