كفراشة ليلية تألّقت وسط الليل المدلّهم، جلست في زاوية قصيّة من فناء الدار بعد أن أنهت طقوسها اليومية في تنظيف عتبة البيت ورشّه بالماء وتبخي

كفراشة ليلية تألّقت وسط الليل المدلّهم، جلست في زاوية قصيّة من فناء الدار بعد أن أنهت طقوسها اليومية في تنظيف عتبة البيت ورشّه بالماء وتبخيره وتعطيره، وهي استعدادات ترى أنها تليق بزيارة أو مرور عابر لضيفٍ عزيز، ثمّ انزوت مع سجادتها و مصباحها ذو الضوء المحتضر تحت قبّة السماء، ترتّل آيات الرحمان وتستجدي منه أمنياتها في غفرانه ورضاه، ومن ثمّ تحقيق طلبها اليتيم، وهو ما أفنت عمرها في سبيل الوصول اليه؛ هو نظرة، مجرد نظرة خاطفة من ذاك الفارس ولتترجّل الروح بعدها وليفنى الجسد.

هذا ديدنها كل ليلة، و"ليل العاشقين طويل"، تقف ساعات على شرفة الأمل، لتجر مع خيوط الشمس الاولى اذيال الخيبة والانكسار، وتعود الى غرفتها وفي قلبها عتاب وحسرة من رؤية المحبوب الذي لا يرحم كما تعتقد لهفتها..

متى سيقدّر لهذا الحلم أن يتحقق؟!.. تساءلت مع نفسها وقد أحسّت بالانقباض والضيق، تأملّت وجهها البائس في المرآة، اغرورقت عيناها بالدموع وهي ترى رماد الشيب يغطّي شعرها، والتجاعيد تغزوا وجهها، وقد تشققت شفتاها، تمتمت بألم: "أبلى الهوى بدني".. لكن عينيها لا تزال تلمع كالجمر في الظلام، فبهما وحدهما تحيا، فهي من ستتكحّل يوما برؤية المحبوب، وبذلك رمت بقية الحواس والملامح لتهيم في شيخوخة مبكرّة..

بانتظار الغالي.

للوهلة الاولى لم تصدّق أذناها، استولت عليها الحيرة امام كلمتين فقط تلّفظ بها ابنها ردّا عن كلمتيها التي تعيش تحت فيئهما طوال أربعين عاما: بانتظار الغالي..، وكانت كلمتيه الغامضتين: بانتظار غودو!.

شقّ ابنها (محمد) حديثه بدون كلفة، وقصّ لها الحكاية الغربية الهزلية: في انتظار غودو، أو "اللاشيء!"، وفحواها؛ انتظار الغائب الذي ينتظره الجميع ولا يأتي، وهي احدى مسرحيات "العبث" التي يرى مذهبها العالم وقد فقد معناه ومركزه، ويتناول هذا المذهب أفكار الانسان بمعزل عن الدين.

كان كلامه بمثابة صفعة ايقظتها من نومٍ عميق، لقد نامت طويلا على أذنيها كما يقولون، لم يشفع لها استطراد ابنها وهو أنه ينجذب الى تلك القصص بيد انه لا يميل الى تصديقها بشكل كامل، ولكنها تعلم أنّ الافكار المنحرفة تدخل الى اللاوعي بهذه الطريقة الغير مباشرة؛ عن طريق القصص والروايات والافلام والمسرحيات!، وبكت أسىً كما لم تبكِ يوما.

لطالما أحسّت بتلك العقدة في قلبها، وهي تعود مع قنديلها (العتيق) من جلساتها الليلية، لطالما سمعت هاتفاً داخليا ينبهها: هناك خلل، هناك مانع!

لم يخامرها الشك يوما باستحالة رؤية من بيمنه رُزق الورى؛ ولي أمرها المنتظر، فقد قرأت وسمعت (باعتقاد) عن كثيرين تشرّفوا بلقائه ومن عامة الناس، وعليه؛ لم تترك عملاً أو وصية إلاّ ونفذتّها، أربعين سنة وليس أربعين يوما، حاولت أن تلتزم فيها بكل الاعمال التي تؤدي الى رؤيته، حفظت الادعية المهدوية عن ظهر قلب، وفي كلها أخلصت نيتها في التقرّب الى الله بهذا اللقاء..

لكن حديث ابنها كان بمثابة سكين حادّة غرست في احشائها، وهي التي كانت بحاجة الى من يشاطر همّها، ويضمد جراحها لا من يسكب الملح عليها، ومِن قبل مَن؟ من فلذة كبدها، وهي التي ظنّت انها تدخل السرور في قلب ولي أمرها، وكان الحزن نصيبه منها!..

نفض الغبار!

لملم النهار آخر خيوط ضوئه ومضى، لتجلس مع مصباحها كدأبها كل يوم وفي زاويتها المعتادة، ما برحت تتساءل مع نفسها: لمَ الشك يدخل في قلوب البعض؟ أبسبب طول الامد؟! كيف سترد على ذلك بالحجة والدليل، أم بسبب الجهل، ومن الطبيعي أنّ الناس أعداء ما جهلوا، أم بسبب الحالة الغيبية للإمام وهل هي حقا فوق الادراكات العادية للانسان!

قررت أن تقطع اعتكافها، فتركت الفناء يعبق بالروائح الزكية، لن تتخلّى عن تهجعّها الليلي لكن سترفقه بشيء اخر يوازيه أهمية أو يفوقه بتعبير أدق، اتجهت الى البيت الذي يأكله العفن، بعزيمة محارب راحت صوب رفوف الكتب التي علاها الغبار، وعزمت أن تخوض غمار حرب عقائدية وفكرية وثقافية وتستأصل من خلالها الفتن المنتشرة في عقر دارها، مع ولدها الذي لا تريد ان يموت ميتة جاهلية، ستمنّي نفسها ان يكون من أنصاره واعوانه، تحت لوائه، وليس تحت لواء العدو!.

في الصميم؛ لاتزال مؤمنة بإمكانية اللقاء بصاحب الامر بل واقوى واكثر من قبل، ولايزال حبها عميقا لهذا الوجود الشريف، ولن تزل تلهج بذكره صباحا ومساءا، ولكن "مجتني الثمرة لغير وقت ايناعها، كالزارع بغير أرضه"، فالآن واجباتها ووظائفها توضحّت اكثر، وهو تأهيل نفسها والاخرين ولاسيما الاقربون لتعجيل ظهوره، لتكون بذلك ذات دور وحركة، مؤثرة وفاعلة، صابرة ومنتظرة بالمفهوم الحقيقي لهاتين الكلمتين.

 حينئذٍ ستكون أهلاً لشرف عظيم وهو التمهيد لظهوره وليس فقط للقائه.

نزعت جلدها القديم ولبست جلدا جديدا يليق بالمنتظرين الحقيقيين، وآمنت وقتها بأنه قنديل واحد لن يكفي، لأنها ستكون دون المستوى المطلوب، بل تكليفها سيكون اشعال آلاف القناديل التي ستتألق في قطع الليل المظلم، عنئذٍ فقط، ستسأل بصدق: متى ترانا ونراك، وكذلك اقتنعت أنه زهرة واحدة لا تكفي، ستزرع مشاتل للزهور في ممشاه إلينا، ليخضرّ الوجود بطلعته الرشيدة وغرّته الحميدة، ليس كضيف بل كإمام ظاهرٍ نافذ الامر، حاكم يحكم الارض قسطا وعدلا بعدما ملئت ظلما وجورا.

 

# يقول الامام المهدي (عج) في رسالته الثانية المرسلة منه صلوات الله عليه الى شيعته والتي رواها الطبرسي: ولو أنّ أشياعنا وفقهم الله لطاعته على اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم، لما تأخر عنهم اليمن بلقائنا، ولتعجلّت لهم السعادة بمشاهدتنا على حق المعرفة وصدقهم منهم بها، فما يحبسنا عنهم إلا ما يتصل بنا مما نكرهه ولا نؤثره منهم...