كان يسحب كم ثوبها كلما تواجدنا في مكان عام ويهرول مسرعا لإخفاء كف يدها المعاق بين الحضور؛ إن كنت لا أجلس بمحاذاته ودائما ما يردد جملته (غطي ايدها) وحينما بلغت ابنتنا ملاك الثالثة من عمرها كان يوبخها أن ظهر للعيان ذراعها التي لا تحمل كفًا صغيرًا بحجم قلبها.
هذا ما سردته لنا أم ملاك عن طفلتها التي ولدت بذراع صغيرة خالية من الكف لا احد يختار لنفسه او للآخرين مصير مماثل فقد شاءت ارادة الله ان تولد وهي تحمل هذا التشوه الوراثي لتكون من ذوي الاحتياجات الخاصة.
ملاك لم تشعر بذلك إذ كانت تحمل براءة طفلة لا تكترث بمن حولها تود فقط ممارسة طقوسها الطفولية مع اقرانها بين لعب ومرح إلا إن سطوة أبيها حالت دون ذلك فقد كان رجلا مرموقا في المجتمع ويخشى ان يشار إليه بالبنان بان ابنته (معاقة) على حد اعتقاده متناسيا أن الاعاقة تكمن بالفكر وليس بالبدن، هذا ما جعل ملاك تدرك بأنها مختلفة عن الآخرين وهناك ما يعيبه, على الرغم من صغر سنها إلا أنها انسحبت من عالم طفولتها لتركن إلى حالة من الانطواء فكثيرا ما نصادف في مجتمعنا حالات مماثلة يرفض تقبلهم الاهل إذ يكون هم اول الاشخاص الذين يغرسون في نفوس اولادهم او ذويهم بذرة عدم الثقة والشعور بالنقص.
(للقوارير) تنقلنا عبر سطورها للتعرف على كيفية تغلب هذه الشريحة على ألم الفقد وتكيفها مع المجتمع:
حدثتنا أم ملاك قائلة: "لم أعلم ان عائلة أهل زوجي يحملون مرض وراثي يصل حتى إلى الشلل الرباعي إلا بعد ولادة ابنتي وقد كانت أقل تشوه بين أفراد العائلة من الأحفاد وبعد تراجع صحة ابنتي النفسية واجهت زوجي بكل ما أوتيت من قوة لأزور مركزا لتأهيل ذوي الاحتياجات الخاصة لانتشالها من حالة الانطواء التي اصابتها والحصول على طرف صناعي يساعدها في ممارسة حياتها بشكل طبيعي دون الشعور بالنقص".
وتابعت: "ومن الأمور الإيجابية التي سعدت بها هو وجود وحدة خاصة للاستشارة النفسية حيث تبنت حالة ابنتي، كما حصلت أنا شخصيا على جلسة خاصة تتمخض حول طرق التعامل مع زوجي لجعله يتقبل وضع ابنتنا دون ممارسة الضغط عليها واشعارها بالنقص".
ختمت حديثها: "كانت البداية صعبة جدا إلا أني قطعت نصف المسافة في العلاج إلى الان".
قسوة التخلي
"إن الفقد الوحيد هو فقد العقل وليس طرفًا من الجسد" هذا ما قاله قيس أحد المشاركين في صفوف الحشد الشعبي حيث خسر قدمه في احدى المعارك بينما اصابة صديقه جعلت منه فاقدا للعقل (شلل دماغي) حدثنا قائلا: "كانت اقسى تجربة أخوضها في حياتي حينما التحقت بصفوف الحشد المقدس تركت خلفي زوجة وعدتها بالعودة وطفلا رضيعا أحلم برؤيته يكبر أمامي عيني، لكن الرصاص لا يعي لغة الاحلام، فحينما احتدمت المعركة حاولت حماية صديقي حيدر الذي كان الناجي الوحيد معي من بين تسعين شهيدا، غير ان خسارتنا كانت كبيرة احدنا بلا قدم والاخر بلا عقل".
صمت للحظة ثم واصل حديثه: "الصدمة كانت حينما عدت الى أسرتي كنت بشغف لرؤية ابني وزوجتي التي فاجأتني برفضها القاسي فما عادت ترغب بأن تحمل صفة زوجتي بعدما اصبحت معاقا كما نعتتني".
واضاف: "بعدما استطعت استجماع قواي قررت الذهاب الى مركز تأهيل خاص بالمعاقين لأتمكن من التغلب على حالة الاكتئاب التي اعترتني بعد الاصابة وتركيب طرف صناعي يساعدني على المشي دون عكاز، والحمد لله الذي الهمني الصبر والقوة على تخطي تلك المرحلة, خصوصا بعد طلاقي لأم أبني التي تخلت عني وأنا في اشد حاجتي إليها.
ألم الفقد والمواجهة
إن أصعب ما يمر به الانسان هو ألم الفقد لأحد أطرافه إذ يصبح شخصا ناقصا بنظر بعضهم إلا أن المواجهة لشكله الجديد تجعله قويا إذ يتصالح مع نفسه لمواصلة حياته دون التفكير بالانطواء أو حتى الانتحار، الامر الذي يقوده إلى زيارة مراكز مختصة للمعالجة سواء أكان نفسيا او صحيا من خلال تركيب طرف صناعي بديل يشعره بالثقة أكثر دون اللجوء الى مساند خاصة أو طلب مساعدة الاخرين.
مركز الوارث ديرما للأطراف الذكية والتأهيل الطبي
وفي جولتنا للتقصي عن مواجهة هذه الشريحة للمجتمع كانت لنا زيارة لمركز الوارث ديرما للأطراف الذكية والتأهيل الطبي التابع للعتبة الحسينية المقدسة ولقاء مسؤولة وحدة الاستشارية النفسية الدكتورة زينب الموسوي للحديث حول العمل المناط لها به حدثتنا قائلة: يقتصر عملنا على تبني بعض الحالات النفسية التي ترد الى المركز من المصابين بين معاينة ومتابعة المصاب قبل واثناء وبعد تركيب الطرف الصناعي وكتابة وتقديم تقرير مفصل بحالة كل مريض إلى إدارة المركز ومعالجته بالعلاج التحاوري و أحيانا احالته الى طبيب مختص ان لزم الامر و ذلك بعد موافقته.
مضيفة: ولعدة الحالات التي تمر علينا في المركز والتي تكون خاضعة غالبا للتمييز الذي نسميه بنوع ما بالعنصرية والجمـلة السائدة في مجتمعاتنا ان الرجل لا يعيبه الا جيبه، أتضح ان هذه الجـملة من خلال الحالات التي لم يتطرق لها سائد الناس مثلي انا المستمع الدائم للجنسين ذكورا وإناث فأنها جملـة نسبة صحتها لا تتعدى الـ (25%) فكلا الجنسين مشروع تنمر قاهر في مجتمع أثرت فيه المظاهر وحب الذات وعدم تطبيق الشراكة الأسرية والاجتماعية التي نصت وتطرقت لها كل الديانات السماوية اذ ان اغلب الحالات النفسية تنتج بسبب ما يتعرض له المصابون من نضرات الشفقة او الاشمئزاز او رفض ذويهم لهم بعد الاصابة او قبلها.
واكدت الموسوي: إن الامر يتعلق بما يغرسه المرء في نفوس الاخرين فضلا عن اختيار الشخص المناسب للاقتران به فبينما هناك سيدة تتخلى عن زوجها هناك رجل يقف بجانب زوجته إذ زارتنا سيدة ثلاثينية من مدينة الديوانية متزوجة وهي أم لأربعة أطفال تعرضت لحادث أفقدها قدمها حيث رافقها زوجها لزيارة مركزنا وتركيب طرف جديد لها.
ختمت حديثها: بحكم عملي التقي في العديد من الحالات والقصص التي لا يسع للمقام ذكرها غير ان المركز يبذل كل ما بوسعه لتقديم العون للجميع من خلال المعاينة النفسية والطبية.
خدمات المركز
وللتعرف على ما يقدمه المركز من خدمات لهذه الشريحة كان لنا لقاء مع مدير المركز الدكتور ياسر الساعدي استهل حديثه قائلا: يعد مركز الوارث ديرمان التابع للعتبة الحسينية المقدسة هو فرع من مركز ديرمان التركي في دولة تركيا محافظة ادنا والذي تأسس في الشهر السادس من عام (٢٠١6) في محافظة كربلاء المقدسة أما مركز الوارث بايونك في مدينة بغداد هو أيضا فرع لمركز بايونك في دولة تركيا محافظة انقرة.
دعم صحي ومعنوي
أولت الامانة العامة للعتبة الحسينية المقدسة اهتماما كبيرا بإحتواء شريحة ذوي الاحتياجات الخاصة بدعمهم معنويا وصحيا حيث يقدم المركز خدمات عديدة منها تركيب وبرمجة الأطراف والأجهزة التعويضية (المساند) مع تأهيل خاص لأصحاب البتر وممن يعانون من صعوبة في المشي، كما وفرت جميع الأطراف والمساند الموجودة في العالم بلا استثناء من أطراف ميكانيكية تقليدية مرورا بالأطراف الهيدروليكية ثم الأطراف الذكية وانتهاءً بالأطراف البايونك الحديثة جدا والتي تحاكي بعملها ايعازات الجسم.
وحول أن كانت هناك استثناءات مادية قال الساعدي: نعم، فقد كان الدعم الكبير عامل أساسي من قبل المتولي الشرعي للعتبة الحسينية المقدسة حيث أوصى بدعم الفئات التالية (القوات الأمنية بكافة صنوفها، الايتام، الفقراء، ضحايا العمليات الإرهابية) وعلى مدى(٦) سنوات من عمر المركز كانت ولازالت الأطراف المجهزة تصل الى حوالي(٨٠٪) بسعر الكلفة ومجاني لمن هم محتاجين وفقط (٢٠٪) بالأسعار الاعتيادية، كما يستقبل المركز قرابة الـ ٦٠ إلى ٧٥ مراجع شهريا منهم يصل الـ ٢٠ الى ٢٥ مراجع يقومون بتركيب أطراف او مساند او عمل صيانة لأطرافهم.
وعن القيمة المادية لكل طرف أضاف: تختلف اختلافا شاسعا جدا وكبير وذلك بسبب قدرتنا على تركيب كل الأطراف المتوفرة عالميا والتي تصل الى أكثر من ٣٠٠ نوع وكذلك تقنية هذه الأطراف المختلفة جدا بين طرف ميكانيك بسيط وانتهاء بطرف بايونك يرتبط مع ايعازات الدماغ البشري لأداء الوظيفة، تبدأ بشكل عام من حوالي ١٠٠٠ دولار للطرف وصعودا.
وفيما يخص جانب التعاون المشترك بين المركز والمؤسسات الصحية الحكومية قال: هناك تعاون كبير من خلال قدرة وإمكانية وخبرة وشهادات المركز والعاملين في مجال تركيب وصيانة الأطراف الذكية، فأننا بتعاون مستمر وفق عقود رسمية مع وزارة الداخلية وهيئة الحشد الشعبي ووزارة الدفاع.
فضلا عن تعاوننا مع شركات عالمية منها (شركة بلاجفورد البريطانية، نابتيسكو اليابانية، بروتيور الفرنسية، فريدوم الامريكية وشركة فيور اند جينتز الألمانية) حيث تقوم بتوفير الدعم المباشر لنا من خلال تدريب كوادر المركز بشكل مستمر ومعاينة بعض الحالات الخاصة مباشرة مع كوادرنا المختصة وتزويدنا بكل تقنية حديثة.
وحدة التدريب
تبلغ مساحة مركز الوارث ديرما (700) متر مربع حيث يحتوي على أكثر من وحدة تدريب مختصة على كيفية استخدام الطرف الاصطناعي للرجال والنساء والاطفال والحالات المختلفة والمعقدة، اذ تتوفر كوادر نسائية مدربة عالميا لتركيب الأطراف والمساند، كما يستقبل المركز جميع الاعمار بلا استثناء.
ويستقبل المركز المراجعة بشكل دؤوب وذلك بسبب تغير حجم الطرف المبتور في حالة زيادة او نقصان الوزن، ولأن الطرف الصناعي يتحمل ضغط كبير من خلال استخدامه بشكل يومي لذى يحتاج صيانة دورية لكل اجزاءه، اضافة الى متابعة الحالات المستعصية والنادرة التي لا يمكن تركيب لها طرف ككبار السن والذين يعانون من أمراض مزمنة كالضغط والسكري وضعف عضلة القلب والوهن العام، وحالات البتر مع وجود شلل في الطرف السليم، اذ ينصح الكادر المختص لذوي المصاب بعدم تركيب طرف صناعي للحالات المذكرة آنفا لكون المصاب بها لا يستطيع التعامل مع الجهد الذي يحتاجه كالوقوف والمشي بطرف صناعي.
كما هناك معاينة خاصة للمصابين بتحسس الجلد بسبب تركيب الطرف حيث يباشر الطبيب المختص بالتدخل لعلاجه من خلال مراهم جلدية بسيطة او تقنيات خاصة بالأطراف من خلال عزل المادة التي تسبب الحساسية (السليكون) عن جلد المصاب.
مشاعر استثنائية
ويصف لنا الدكتور ياسر مشاعر الاشخاص الذين يتمكنون من استخدام الطرف الاصطناعي بكل سلاسة واريحية بانها مشاعر استثنائية فبعدما يتمكن المصاب من النهوض والسير على قدميه متخليا عن كرسيه المتحرك او عكازه يغمره فرح لا يوصف يصل حد البكاء، كما يعمد بعضهم على احضار الورود والهدايا أو تجهيز مأدبة طعام لكادر المركز كتعبير عن امتنانه لجهودهم المباركة.
وفي الختام قال الساعدي : من خلال مجلتكم الغراء أقدم جزيل الشكر لدعم العتبة الحسينية المقدسة ابتداء من سماحة المتولي الشرعي (دام عزه) لما لمسناه طوال فترة العمل على الحرص الكبير والمتابعة المستمرة ومساعدة كل محتاج من مصابين بتقديم أرقى الخدمات لهم وهذا ما جعل المركز يحقق ارقى واكبر النتائج الأمر الذي دعا المراجعين ترك التركيب خارج البلاد ومؤسسات الدولة بالتعاون مع المركز، أسأل الله العلي القدير أن يوفقنا لخدمة ومساعدة أكبر عدد ممكن من مواطنينا الأعزاء لجعلهم يستمرون بحياتهم بشكل طبيعي.
المرفقات
واحة المرأة
يعنى بثقافة وإعلام المرأة والطفل وفق طرح عصري