في الوجوه التي غيرتها الشمس يتجلى الحب بأجمل معانيه، فترى الناس خداما مهما كان لهم من الشأن، يشمرون عن ألقابهم ويبدؤون بالخدمة على طريق الجنان، في هذا الطريق دخل الكرم موسوعة غينيس لأكبر مائدة تنصب في العالم وهي بضعة كيلو مترات كيف والطرقات مملوءة حبًا وكرمًا.

لم أكن قد تجاوزتُ الثانية عشرة من عمري حيث اعتدتُ المسير من النجف إلى كربلاء، لا زالتُ أتذكر حين جلسنا للاستراحة والصلاة ثم مُدَّتْ (السفرة) لم أرغب بالطعام ورفضتُ الأكل وأخبرتُ خالتي بأني سأتناول الطعام من موكب آخر عند المسير، سمعت صاحبة الموكب همسي ثم سألتني عن نوع الطعام الذي أريده أخذني الحياء ولم أجب، غادرتْ ثم عادتْ بثلاثة أصناف أحدها أشهى من الآخر ثم قالتْ (يمة هذا مضيف الحسين ومتطلعين إلا راضية)، أخذتني العَبرة ومعها خجل من كرم الإمام ومن خدامه.

وفي مسير كلِّ عام توقفني مواقف الحبِّ، كثرةٌ تلك المواكب التي وجدتُ أهلها يجمعون قوتهم كي يأتوا للخدمة، ويطبخوا للزائرين ما لا يستطيعون أكله طوال العام، فلا زالتْ تقبع في ذاكرتي عائلة من أهل البصرة التي تسكن بيوتا من الطين وليس لديهم إلا بضع نخلات يدخرون تمرها لمسير الأربعين ويبدعون في تقديمه فمن حلاوة التمر الى الدبس الذين يصنعون منه حلويات مختلفة، أوانيهم من السعف والأكياس، يشجرون تنورهم مما يتبقى من كرب النخل، ويقدمون خدماتهم بالدعاء والبكاء.

تلك الموائد التي تمتد لمئات الكيلومترات وتحمل من صنوف الطعام ما لذ وطاب تعين الزائرين على مواصلة مسير مواساتهم للسيدة زينب (عليها السلام) وتذكرهم مع كل وجبة أنها كانت بلا طعام وشراب، وهذا الطعام له معجزاته على طول الطريق فكم من عليل تشافى وكم من طالب قضى الله حاجته، فسيد الشهداء يحيط بعنايته كل زائر وعاشق قلبه مجمر.