مر على هذه الارض كثير من الحروب والجرائم الانسانية البشعة التي حفظتها صفحات التاريخ, ألا إن معركة واحدة أخذت بعدًا فاق حدود التاريخ والذاكرة, معركة لا يتم استحضارها على سبيل الذكر وحسب بل تُستحضر وجدانيًا وبمنتهى الفعل من بكاء واجتهاد وسعي واستعداد وكأنها وسيلة للنهوض روحيًا لإعادتها إلى وقتنا الحالي بأقرب صورة أو أقرب شعور على أقسى تقدير.

ذاكرة العطش ربما يكون وصفًا واحدًا من جملة ما تتصف به معركة الطف غير العادلة, والحديث عنها بالتأكيد لن يقترب من حقيقة الواقعة, غير إن العطش اقترن بشكلٍ مأساوي ومفجع وصار شرب الماء والتلذذ به تذكرة تلقائية لتلك الفاجعة التي حصدت أطهر الأرواح على ارض كربلاء, وبالتالي فإن العطش ذلك الشعور بالحاجة للتزود بالماء الذي جعل الله منه كل شيءٍ حي هو أكثر ما يشعل فينا رغبة الركون إلى الحزن, وهذا بحد ذاته يؤكد علامة الطف الفارقة, فكيف بعد كل هذه السنوات الطويلة لازلنا قادرين على الإحساس بما جرى في ظهيرة العاشر من شهر محرم الحرام وما سبقها وما تلاها من مشاهد مؤلمة!!

مع إن قضية الإمام الحسين (عليه السلام) قضية كونية والحديث عنها فاق حدود القول والكتابة؛ لكن أي كاتب يحاول بكل ما أوتي من قدرة على تدوين مشاعره وأفكاره أن يضع بصمة حسينية في كتاباته ويستثمر شهري محرم وصفر بتنقية قلمه وغمسه في بحر الحسين, فمن عطشه أرتوت الأقلام بالمِداد وهذا ما أحرص عليه في كتاباتي ضمن إصدار ينتسب لمرقده المقدس, فالعتبة الحسينية تحرص في كل ما تصدره من خطاب للعالم أن تبرهن مرارًا وتكرارًا عن حقيقة خلود قضية الإمام المظلوم وكيف انبجس من عطشه كل هذا العطاء غير المنقطع.