كحال معظم بيوت العراق في عهود مضت كان بيتنا منزل واسع وحديقة كبيرة بأشجار مثمرة متنوعة تكاد تكون شجرة النارنج القاسم المشترك بينها و رائحة شجرة الشبوي التي تفوح بعطرها الاخاذ ليلا وتغريد البلابل صباحا والفراشات المتعددة الانواع والالوان التي تتنقل من الجوري إلى الرازقي، هكذا كانت حياتنا سابقا حياة سعيدة وبسيطة تتحمل الام كافة اعبائها في ظل غياب الاب الدائم عن المنزل و عائلة كبيرة تملأ ارجاء المنزل بضحكاتها، تلهو معظم ساعات النهار في حديقة المنزل وكنت الابنة الوسطى بين عشرة من الاخوة والاخوات فلم أكن الكبيرة لأنال الحظوة ولا الصغيرة المدللة، كنت فقط أحد افراد العائلة

 

ذات يوم طلب مني أحدهم ان أجلب له علبة ثقاب (شخاطة) الشخص كان رجلا يدخل بيتنا بين حين واخر ويبقى لعدة أيام ثم يختفي.

 

أوصلت طلبه الى والدتي وهمست لها أن ذلك الرجل طلب مني ان اجلب له شخاطة 

صدمت أمي بهذا القول وضحكت بهستيرية تعجبت لها أنا الطفلة الصغيرة وتعجبت أكثر من التوضيح الصادم الذي عرفته من أمي التي أكدت لي بحنو ان هذا الرجل هو أبي!

 

بدأت ذاكرتي تسجل الاحداث منذ تلك الحظة، منذ ان عرفت ان الرجل السندباد والضيف الرحالة الذي يحط بيننا بفترات متباعدة كان والدي الذي يعمل في دائرة تابعة لوزارة الري آنذاك وكان مهام عمله هو حفر الابار الارتوازية في الصحاري الشاسعة والاراضي المقفرة للبدو الرحل وسكان تلك المناطق واينما يكونوا يكون هو مع فريق عمله وسيارة ال(لاند لوفر) التي كنا أنا وأخوتي الصغار نعشق ركوبها متى ما سمحت لنا الفرصة لنلعب تحت (الجادر) الذي كان يغطي الحوض الخلفي. 

 

منذ ذلك الوقت عرفت أبي الغائب دائما وأصبحت أنتظر عودته لنا محملا بالهدايا وبما لذ وطاب من خيرات شمال وجنوب العراق واليوم الاول لوصوله كان مميزا جدا والسبب هو اننا سنتعشى عشاء خاصا قد نتذوقه لأول مرة

 

كان أبي يجلب معه (الكمأ) التي تنهمك أمي بتنظيفه لساعات طويلة فنسعد صغارا بطعمه اللذيذ وبالفطر والرز الاحمر ومعلبات غريبة كنا نتمكن أن نتهجى بعفوية ونقرأ ما مكتوب عليها (صنع في السعودية او صنع في الكويت) وغير ذلك من الاشياء التي قد نراها لأول مرة.

 

كنا نصغى لابي وهو يشرح لأمي بزهو أن دبس الرمان هذا من ديالى وسمك الزبيدي هذا من البصرة كما نستمع بلهفة لما كان يرويه من حوادث تعرضوا لها في الطريق او يتحدث عن اختلاف العادات والتقاليد للقبائل العراقية في كل بقعة من البقاع التي يزورها ونفزع أيضا لأخبار بعض رفاقه الذين يتيهون في الصحراء.

 

في بعض الاحيان كان والدي يصطحب معه أحد أخوتي العشرة فاغبطهم على ذلك فيغيب هو الاخر لأيام طويلة ليعود بعدها ومعه حمل أو معزة صغيرة ليؤكد لنا بتباهي وشموخ انها هدية أحد شيوخ القبائل فنلهو معها وتضيف لحياتنا بهجة وسعادة مضاعفة لا تضاهي طبعا الالعاب الشعبية التي كنا نقضي معظم الوقت معها في الحديقة الخلفية.

 

كبرنا وتقاعد الاب وتحولت الحديقة الى مشتمل ليستوعب جميع الابناء ولم تبق سوى الذكريات التي ما زالت ترسم على وجهي ابتسامة لا ارادية مع حزن شفيف وأنا اتذكر والدي وأخوتي الذين رحلوا عن حياتنا مبكرين وكما يقول محمود درويش (وإن اعادوا لنا الأماكن، فمن يعيد لنا الرفاق) رحمك الله والدي، ليتنا لم نكبر أبدا.