قطرات تساقطت، صببتُ الماءَ على أعلى جبهتي، نزلَ سواقي باردةً.. امتزجَ بحرارةِ أخاديد الملحِ التي أذابتْ وجنتيّ. رفعتُ الكفَ اليمنى مضمومةَ الأصابعِ، أمسحُ الماءَ نزولاً, برودةُ جليدٍ تغسلُ الاحتراقَ، علّني أتمكنُ من إزاحةِ هذا الستارِ المنسدلِ على بصري وبصيرتي.

هي عيني التي نظرَتْ... وما استحث من الناظرِ!

اللهم بيّضْ وجهيَ يومَ.....

تنهمرُ دمعتا ندمٍ لتختلطَ بماءِ الوضوءِ.

أيُّ ماءٍ قادرٌ على إزالةِ هذا الدرنِ العالقِ بروحي يا ربّ؟

أستغفرُ اللهَ العظيم من الذنبِ العظيمِ.

أضمُّ أصابعَ يَميني المرتعِشةِ، الماءُ يتجمعُ بباطنِها، رقراقٌ طاهرٌ.

ألا أخجلُ من نفسي حينَ أدنسُهُ بيَديَ الآثمةِ! عفوَكَ ربّي.

انقلُهُ إلى كفي الأيسر لِأصبَهُ على مرفقي الأيمن.

عُذراً يا سيدَ الماءِ!

أمرّرُ باطنَ كفى وأمسحُهُ. ربّي إنكَ عفوٌّ غفورٌ، اللهم أعطني كتابي بيميني..

وَكيفَ يُنشَرُ كتابي أمامَ الملأ يومَ الجزاءِ؟

أكررُها، وأنا أذوبُ خجلاً.

أجمعُ الماء بيميني مرةً أخرى، أصبُّهُ على مرفقي الأيسر، أمسحُهُ، أرى سواداً يتقاطرُ منها. أستغفرُكَ ربّي وَأتوبُ إليكَ، اللهم يسّر ولا تُعسر، ثمّ أدسُّ أصابعَ يميني تحتَ الحجابِ، لأمسحَ مفرقي، اللهم برحمتك حرّمْ شعري عن النار.

أحاولُ أن أنثني لأمسحَ ظاهرَ قدمي، لم أستطِعْ، استندْتُ على عمودٍ قريبٍ ومسحتُها. اللهم بفضلكَ وكرمِكَ ثبّتْ قدَمي وقدمَ والديّ على الصراطِ المستقيمِ.

وَهل أستحِقُ؟

انتظِرُ أذانَ الفجرِ، أتخِذُ مصلّى على جانب الطريقِ، افترِشُ الترابَ لأُقيمَ الصلاةَ.

عفرْتُ وجهيَ بالترابِ وَحُقَّ لي أن أسجدَ لك.

رفعتُ دعائيَ بعدَ التسبيحِ، وأنا أعلمُ أن الدعاءَ والقدرَ يتصارعانِ في السماءِ، وأرجو من اللهِ عفوَهُ ومغفرَتَهُ.

واصلتُ المسير. ما زلتُ بعيدةً يا مولاتي. الجميعُ سبقوني إليكِ. قدمايَ لا تُعينانني، وآثرتُ زيارتَكِ حافيةً، مُعفّرةً، شعِثَةً، لعلّكِ ترأَفي بي وتشفَعي لي عندَ أخيكِ، ليكون شفيعي أمامَ بارئي وخالقي.

شوقي وحاجتي تغُذُّني إليكِ.

صارَ الطريقُ موحِشاً وَهادِئاً، خلا من الحجيجِ. بقيتُ وحيدةً أمشي الهوينا، خطايَ ثقيلةٌ، كأنَّ قدمي تنبتُ بالأرضِ وتتجذرُ، بالكادِ اقتلعُها وأرفعُها، لتنغرزَ الأخرى.

استعارُ نارٍ في قلبي، تنورٌ مسجورٌ، وحرقةُ جسدٍ تتقطّعُ أوصالُهُ، نبالٌ مسمومةُ تنهَشُ لحمي.

الشمسُ ارتفعَتْ إلى كبدِ السماءِ، أُطرِقُ رأسيَ وأسيرُ، ما عدتُ أرى نهايةً لهذا الدربِ المُحصِبِ. قدمي الحافيةُ تحترقُ بحرارةِ الحصى المُلتهبِ، حافاتهُ الحادّةُ أدمَتْ باطنَها، أحسُّ بلزوجةِ خطواتي المُنهكةِ، وتعلّقِ حباتِ الرملِ بأقدامي

مما زادَ الألم والحُرقةَ.

ملامحُ الطريقِ تغيرَتْ، هو ليسَ الدربَ الذي اعتدْتُ عليهِ، إنهُ أكثرُ غرابةً ووحشة.

أشجارُ نخيلٍ مُتباعدَةٌ، وَأشواكٌ وحسَكٌ، كأنّ لا أحدَ مرّ من هنا!

أخطو.. أتعثّرُ.. أتهاوى.. انهضُ من جديدٍ.

يا زينبُ، جئتُ إليكِ قاصدةً، فأعنينني يا مولاتي.

بعدَ الزوالِ، هبَّ إعصارٌ أسودُ، أطاحَ بي، ورقة يابسة يقلبني، اتشبّثُ بالأرضِ.. أغرزُ أصابعي بلهيبِ الرملِ. اللهي برحمتك ولُطفكَ أعِنّي.

ذُلّي وانكساري أضعفَ قدرَتي، الإعصارُ أحرقَ ما تلفعْتُ بهِ ستراً، صارَ مهلهلاً بالياً.

تكوّرْتُ على الأرضِ وَخفضْتُ رأسي، طوَيتُ ذراعيّ فوقَهُ، أغمضتُ عينيَّ، معَ ما أُكابدُهُ من حُرقةٍ وَوخزِ الغبارِ فيهما.

هدأ الإعصارُ قليلاً، نفضتُ ما غطاني من ترابِ العاصفةِ.

يا ربّ بحولكَ وقوتِكَ أقومُ وأسعى.

نهضتُ لأواصلَ المسير، كانَ ستري ممزّقاً، حاولتُ عقدَ أطرافهِ وَوصلها مع بعض، لفَفتُهُ حوليَ ومشيتُ.

أسمَعُ أنيناً وصُراخاً، وحسحَسةَ نارٍ مُتأججِةٍ، تختلطُ بأصواتِ استغاثةٍ وتكبيرٍ.

وصلتُ إلى مشارِفَ كربلاءَ.. كأنّها ليسَتْ هيَ!

إنها ساحةٌ غبراءُ مشتعلةٌ، دخانٌ.. دمٌّ.. أنينٌ.. أشلاءٌ هنا وهناك.

إني أبحثُ عنها، سيدةِ الصبرِ الجليلةِ.

كسوفُ الشمسِ خلقَ ليلاً آخرَ، خيّمَ على الأجواء، لا يكسِرُ ظلمَتَهُ إلا بعضُ اللهبِ الذي عاندَ الانطفاءَ، ليواسيَ القلوبَ المحترِقَةَ بالفقدِ والمصابِ، ويمنحَها بعضَ الضياءِ لتعيدَ الورودَ المتناثرةَ بعدَ الإعصارِ، تلمُّها بأمانِ الوعدِ الإلهي بالحفظِ والسلامةِ.

رأيتُها شامخَةً بكبرياء، لم يُثنِها الحزنُ الثقيلُ عنِ الالتفاتِ لجميعِ اليتامى.

تعلقْتُ بعباءتِها، عجِزَتْ يديَ عن لمسِ أطرافِها، إنّها لا تُمَسُّ.

- مولاتي، خُذيني لطهركِ، لُمّيني معَ عيالِكِ، خادمةً وفيةً.

دخَلَتْ على نورِ القداسَةِ في خيمةِ العليلِ. رَأيتُ ابتسامة فخرٍ لجميلِ صنعِ اللهِ فيهم،

بينما السماءُ مازالتْ تُمطرُ دماً.