عودةٌ برائحةِ الموت

أَسقطُوا المصحفَ مِن على ظهرِي فلَم يستحُوا، كالفراتِ يجري ماءً، يغسلُ وجهَه بيدِه وهوَ يقُول: (هكذا أَلقى اللهَ)

أخذتُ أصبغُ ناصيتِي بدمِه صارخًا بهِم: (الظليمة...الظليمة)، فلَم يسمعوا، توجّهتُ نحوَ الخيامِ بآهاتِي كاليتيم، خاليًا منه كيفَ أَرنو لوجه زينب عندَما تخاطبُني: (كلي يالميمون وين والينه؟) الموتُ أهونُ عليَّ مِن مذاقِ المشهدِ.


اللّقاءُ الأخير

ثلاثةُ أيّامٍ ما تزالُ الأجسادُ متناثرة على وجهِ البيداء، قدمَ من الكوفةِ كشيخٍ كبير يتوكّأ على عصا الحزنِ.


كربلاءُ

صامتة، ترتدي ثوبَ الحداد، وقفَ بحزنٍ ينظرُ، إلى نجومهِ المنكدرة، يتأمّلُ منظرَها، تراءت أمامَه مشاهدُ، الحزنِ والألمِ أخذَ يتّجه نحوَ أبيهِ، كالطير يلقي بنفسهِ على صدرهِ، مخاطبًا إيّاه: (أبتاه) أَما أًخْبِرتَ عن حرقِ الخيامِ؟ أَما أُخْبِرتَ عن فرارِ النسوة والأطفال؟ أَما أُخْبِرتَ عن ليلِ الوحشة؟ أبتاه كلُّ واحدٍ منّا، أخذَ نصيبُه وزيادة، ثمَّ نهضَ من عمقِ الأسى، يحفرُ في صدرهِ بيتَ أبيه ليواريهِ تحتَ أضلاعِه.


رحلةُ الأسر

تتسلَّقُ السياطَ أكتافُ (الصبر)، تصيِّرُها (نهرًا) لترتوي منه، رُغم الجرحِ صامتة، يُرعِبُ الجلادُ صمتَها، تكسِّرُ سيوفَ كبريائِهم، ليزدادوا ضربًا، في أوجِ هيبتِها تسير، ما يزالون صغارًا وهي تهرمُ، مثلُ البحرِ تبتلعُ آلامَها فيهوي الجمرُ من عينيها، يحرِقُ فيها حتّى الورقةِ الأخيرة، مرَّةٌ أخرى ينطلقُ (الرَّكبَ الجريحِ) عنوةً من دونِ وداع تستكملُ فيها رحلةَ (الشهيدِ) في مسيرِها الطويل عبرَ رحلةِ الأسرِ.


الملاذُ الذبيح

في تلك السّاعة كلُّ شيءٍ يبحثُ عني ليلوذَ بي من شدَّةِ الخوفِ حتّى الأعوجيّة لم تكن عمياء، كانت أسيرةَ الذئاب، تبحثُ عن مأوى في فمِّ الوغى، التجأت إلى صدرِي تتشبّث به، الأعداءُ لا يفقهون لغةَ الأمانِ، صدى أطفالي المردّد في فضاءِ روحي (أبتاه)، يوقظني، أنظرُ إليهم وهم يفرّون على الرّمال المفترشة بدمي، عُطاشى خائفين، السياطُ تلوّح بيدِها نحوَهم، أحاولُ أن أستجمعَ قوايَ لأتبعَهم لكن دونِ جدوى، حتّى صوتي لم يسفعني، سأبعثُ لهم رأسي عسى أن يصلَ إليهم.


اعتذار

رقيّة بنتَ العمِّ: أَنا (رقيّة بنت الحسن) ها هي يدُ الموتِ تلوّح إليَّ من بعيد، ستسقطُ أوراقُ العمر ِعذرًا، سأرحلُ عنكِ، لا تبحثي عن أصابعي بينَ كفّيكِ، تمسّكي بكفِّ الصبرِ، لا تحزني عليَّ، احتسبيني قربانًا في طريقِ الشهادة، حدّثي الطريقَ، أخبرِيه كنّا معًا نلوذُ ببعضِنا... سأنتظرُكِ.. أحسبُ الدّقائقَ للُقياكِ، أَنا أعدُكِ بلقاءٍ قريبٍ، رأسُ أبيكِ سيجمعُنا!


كيفَ أَروي أَبِي؟

أيُّها الرمحُ استرِح أَما تعبتَ، أريدُ أن أرويَ أبي، ما زالُ عطشًا، كنتُ أسمعه يقولُ: "وحقّ جدّي أَنا عطشان"

أيُّها الرمحُ كيفَ أَروي أَبي؟

يداي قصيرتان كعمري وأنتَ لم ترحمه، انظر إلى شفتيهِ ذابلتين، لا تقلْ لي نائمًا يستحيلُ أن ينامَ... إنَّه مستيقظٌ أعِد النظرَ مرَّةً أُخرى.. لم يكن نائمًا جفناه مطبقان من تعبِ الوغى، ما الّذي تنتظرُه؟ لن أدعَكَ ترحل حتّى أسقيه.


سألتقي به

أَربعون عامًا من الظلامِ سيزورُني الصباح سألتقي به هذهِ اللَّيلة رأيتُه _أبي_ جسدًا بلا رأس يحملُ رضيعَه

يقول لي: (ولدي عليّ العجل العجل) أربعون عامًا في حدادِ الجرحِ لقد شقَّ الدّمعُ أخاديدَه على أطرافِ وجهي

كيفَ لا أَبكي؟ أَبي هنا _أشارَ إلى قلبهِ_ بكت أصابعَه جمرُ الفراقِ، أشدُّ وطأةً من جمرِ السمِّ الناقع في جسدي، كلَّما

فتحتُ عينيَّ أبصرتُ (كربلاء)، بُكاء صُراخ وثكالى بعدَ هذا الحزنِ الأزليّ قاصدًا إليهِ لا شيء معي إلّا لون وجهي، وآهاتي، وصوتي الّذي بُحَّ في مأذنةِ الرُّوحِ (حسين...حسين).


سفَر

بعدَ غروبِ الشمسِ، سأذهبُ إلى أبي عزرائيلُ أخبرني بذلك وعدَني أن يأخذَني إليهِ قلتُ لهُ: أخبرهُ...

ها هو عائدٌ إليه ليخبرَه إنَّ خولةَ مشتاقةٌ إليهِ ويخبرُه أيضًا إنَّها لا تريدُ أَن تغفوَ على الترابِ هذه اللَّيلةِ تريدُ أَن تغفوَ بحجرِه.


كيفَ لي أن أودّعَكَ؟

يا أخاه أيُّها المجتبى قُل لي كيفَ لي أن أودّعَكَ؟ وأنتَ السعادة الّتي كانت ترافقني في ظلِّ الحزنِ، تحدّث معي، حسين أنا، صمتُكَ سهامٌ موجعة، لا تقلْ لي أنا راحلٌ انتظر عشرًا، ونرحلُ معًا يا أخاه إنَّ الحياةَ بعدَكَ وحدةٌ، كيف سأجتازُ السنينَ من دونكَ؟ يا أخاه سأضربُ صدري بكف الصبرِ حتّى ألقاكَ مخضّبًا بدمي.