قصة الشهيد السعيد (مجيد حسان)
كل شيء كان صامتا وهادئا، ارتدى ملابسه وجاب زوايا البيت بنظرات قاتمة..
بدت له لحظة.. انحنى الزمان خجِلاً أمامه... مشى نحو تلك الغرفة الباردة لخلوها من أصحابها، المخضرة بعبق الماضي القريب، ما كانت تخيفه أشباح الفقدان والوحدة، ولا ما التفت حوله من أنفاس الغياب والوحشة، فالأمر لا يتطلب جهدا لاثني عشر عاماً من العمر نمت في حجر الشجاعة..
ارتطمت الباب بحجر الأرض المزاح من شدة الرطوبة والملوحة ليعلو صوت صريرها حين حاول أن يدفعها بقوة... طالع مقتنياتها تدور حوله... الصور والملابس والفراش.. بدأ يحدث جدرانها.. استغرق صدى صوته فضاءات سماوية ليخبر من اشتاق له أنه مازال على عهده...
خاطبه بهاجس متأسف تحيطهُ هالة الندم حينها فقط يدرك أنه بلغ مبلغ الفقدان...
- من المفترض أن أبتهج، لِمَ جبلاً من الغم والحزن يرقد على صدري؟...
أغلق الباب بهدوء فقد فات موعد الوداع منذ أيام..
أطبق على شفتيه بقوة لكيلا يبكي...
مازال كلام والده وعدا مقدسا له ولكنه لم يفِ به، فجأة جفل جسده كله وغارت عيناه على صوت ذاب في السجود داعياً له...
- ياسين... ولدي ستتأخر عن المدرسة..
يأخذ مكانا بعيدا عن تلك الغرفة المكبلة بالحنين.. ويسرع الى والدته، يستمع بشغف الطاعة لتحذيراتها وتنبيهاتها... يلتقي بنظراتها المتأملة والمؤمنة به بعد والده فتهوي لتحتضنه وتمسح على رأسه...
بدأ لتوه يستقصي ما تعجز التعبير عنه لتوصله الى بر الأمان، تلتف حوله شتى أنواع التوصيات وكأنه في حديقة امتلأت بشتى أنواع الزهور تحتار أي زهرة ستسعف قلبه ليبتهج - وان كان ابتهاجاً ظاهرياً- ؟؟؟
كما كانت تفعل مع والده حين يلتحق لساحة القتال.
يطمئنها ويركض هاربا من عينيها لئلا تكشف غصته في الحنين، رأى يديها تلوح له بالسلامة وتترجى من السماء أن ينهمر عليه عطاؤها في التوفيق..
يركض ويركض حتى يشعر بالاختناق للهثه وتعبه...
يقف لتهدأ ضربات قلبه المضطربة وما تمر لحظات حتى يواصل سيره كجهاد أبيه...
إسراء مازالت تتأنق بحيائها وحجابها الذي أهداه والدها لها، ولباقة طفلة في الصف الثاني الابتدائي ما ان تراها حتى تعرف انها ملكت اباً راقياً جدا بأخلاقه الطيبة ومندفع لقضاء حوائج الناس قبل أن يرهقهم ذل السؤال...أحبته كما فقدته بقوة..
تحاول إخفاء ضعفها حين تستدرجها في السؤال عن أبيها وتنقض على جرحها لتتعايش مع اليتم بعده، تطأطئ رأسها بين يديها بعينين مغرورقتين بالدموع
أما أختها التي تكبرها بسنوات ثلاث، فقد انتهجت من السيدة سكينة (عليها السلام) قدوة لها... بدت كزهرة عفاف مجاهدة تؤمن بمستقبلها المشرق من بركات شهادة والدها...
سارَ في طريقٍ وعر يجاور دارهم المستأجرة.. هذا الدرب كان بالأمس يلثم خطوات أبيه عائداً من جبهات القتال ليحتضن أطفاله الأعزة ويباشر عملاً يقتات به من حلال الله، ويعاود السير فيه ذهاباً مرة اخرى الى الجبهة..
الطريق ذاته ها هو اليوم يسير في ذات الطريق ليصل مدرستهِ.. رفع رأسه لأعلى المبنى.. حدّق جيداً في لوحة علقت على جدار المدرسة كان فيها اسم والدهِ تسبقه عبارة (الشهيد البطل) والده الذي استشهد في ثورة الهجوم على شياطين الإنس خطفهُ قناص جبان أصابه برصاصة رفعت روحه الى عليين..
تجمهر حوله الأصدقاء لتعزيته ومواساته حتى دق الجرس ليعلن بدء الدرس الأول ..
اختلجته عبرة البكاء مع صدى رنين الجرس، فها هو أول درس سيبدأ وأبوه ليس في هذه الدنيا البائسة..
سرعان ما استعاد قوته.. قفز مفتخراً معتزاً بجهاد والده منذ بداية فتوى الجهاد الكفائي ليُعلن جهوزيته لإكمال مسيرة العلم ويبني وطناً حُرر من براثن الإرهاب بسواعد الابطال..
دخل المعلم مؤدياً تحية الإسلام..
طلب من الجميع ان يقف اجلالاً وتقديراً للشهيد..
أعلنت تلك اللحظة حداد الصمت اجتمعت الملائكة حول أرواحهم الفتية وشاركتهم مراسيمهم الجلية، همست شفاههم بآيات سورة المباركة الفاتحة لروحه المجاهدة، تبعها وابل من التهاني لنيل الشهادة..
انتهى الدرس بعزيمة قرار ياسين أن يبذل جهداً مثابراً وقد اقتربت الاختبارات النهائية وقريبا ستأتي العطلة الصيفية.... أحس برواء روحي يجري في أعماقه لمواصلة يومه بنشاط وحيوية وهو يتذكر ما قال له والده:
- عندما تأتي الإجازة المدرسية ،سوف أخذك معي لترى المجاهدين...
ها قد حلّت العطلة الإجازة الصيفية.. دونك يا أبي..
من سلسلة قصص كتاب ومنهم من ينتظر (الجزء الثالث) الصادر عن مركز الحوراء زينب (عليها السلام) في العتبة الحسينية المقدسة
ايناس حسن
واحة المرأة
يعنى بثقافة وإعلام المرأة والطفل وفق طرح عصري