قصة الشهيد السعيد (جواد عبد الحسين عبد الله)
في ظلمة الليل راح يتأمل عتمة السماء.. واضعاً يديه في جيبه يجرّ خطاه على مهل.. تلك المكالمة أكثر ما شغل تفكيره تلك الليلة..
عثرته بالحصى من حوله كانت دليلاً واضحاً على تفكيره العميق.. وهو يركلها برجله ذات الحذاء السميك..!
كيف لذلك الاتصال أن يسلب منه النوم لهذا الحد..؟؟!
بقي مستيقظاً حتى ساعة متأخرة ..يفكر ملياً ..كاد ذلك الصوت أن ينال منه لولا أنه تدارك الأمر صباح اليوم التالي..
الفجر يجهز السماء لولادة الشمس من جديد.. نهض «جواد» من فراشه الرمليّ حاملاً «بندقيته» المكتظّة بالرصاص - على كتفه -..
مشى قاصداً مقرّ اللواء ..آملاً قبول طلبه ..
بعد انتظار بسيط.. دخل «جواد» ملقياً التحية العسكرية..
- سيدي.. أرجو منكم قبول طلبي هذا..
أخذ يفتح الورقة الخالية من السطور، ليضعها على الطاولة..
حدّق « اللواء» مليّاً بخط يد «جواد» وراح يقرأ ملخص تلك المكالمة وما يطلبه ..
ما إن أخذ القلم ..حتى أخذت أنفاس «جواد» تزداد خوفاً.. قلقاً.. و ترقباً..
- ... موافق.
حيّاهُ بودّ و امتنان.. و ضرب الأرض برجله ملقياً التحية من جديد..
لم تكن أفخاذه المليئة بالذخيرة تستطيعان حمله.. إنه الآن سعيد..
سعيدٌ لما ينتظره.. للشوق الذي بات ينخر العظم في صدره...!
سعيد لأنه سيسعد طفله الوحيد الذي أرقه صوت بكائه عبر الاتصال الهاتفي.. صدى توسلاته لأبيه كاد يعصف بإذنه.. لذا سارع بالعودة سريعاً الى داره في الوقت الذي كان فيه العدو راكداً في جحوره..
على الرغم من أنه لا يزال يحتفظ بالمفتاح .. إلا أنه اختار ان يطرق الباب أملاً برؤية الفرحة على محياه..
بعيون لم يفارقها النوم بعد.. نهض الطفل مسرعاً من فراشه.. متجهاً بلهفةٍ عارمة نحو الباب، فهو على يقين ان توسلاته لم تذهب سدى!
فتح له نور عينيه الباب..
برائحة البارود التي تملأ ثيابه.. حمل (طفله) بشوق كبير..
راح يعانقه بشدة.. بلهفةٍ عارمة..
كان الطفل يتأمل أبيه.. كأنه يراه للمرة الأولى .. ما ان جلس على الأريكة.. حتى غاصت عيناه الــصغيرتان بـوجه أبيــه.. بذلك الزي المرقط.. بأكمامه المرفوعة إلى نصف ذراعه.. بذلك الجرح الذي اعتلى جبينه، ولم يعرف كيف أصيب.. احتضن الطفل أباه حتى غط في نومٍ من جديد..
مضت ايامٍ قليلة قضاها (جواد) مستمتعاً بساعاته مع ولده الوحيد.. استيقظ في احدى صباحاتها.. مجيباً على المكالمة الهاتفية ..
نهض على عجالة ليهيئ نفسه.. عندما أخبره رفيقه المجاهد أنهم في تأهب لصد هجوم إرهابي عن جبال مكحول ..
كعادتها ..وقفت والدته تحتضن الطفل، قرب الباب.. انهمرت الدموع منها بغزارة موجعة .. بأكمامها العريضة أخذت تكفكف دموعها..
- إنها الحرب يا بني.. وتحتاج الى رجالٍ أمثالكم.. أدعُ لنا بالصبر يا بني .. فقط الصبر لفراقكم حتى تعودوا سالمين منتصرين..
قَبَلَ رأسها و رَبَتَ على كتفها محاولاً تهدئتها..
- ستفخرين بولدكِ يا امي..
غصَّ هو الآخر بدمعته.. ومشى خطواته مسرعاً .. مبتعداً عنهما ...
راحت الجدة تحتضن الطفل ..و « جواد» يحتضن سلاحه...!
ظلَّ واقفاً ينتظر السيارة التي كان من المفترض أن تقله حيث تجمعاتهم العسكرية ..!
بعد دقائق قليلة.. صعد السيارة.. جلس محاذاة النافذة، يفكر بعائلته العزيزة وطفله الوحيد..
الطفل الذي لم يغدق عليه كامل حنانه حتى الآن، أخذ الدمع يدور في حدقة عينيه دون أن يخرج من نطاق تلك الدائرة ..
أخرج من جيبه شيئاً أشبه بلعب الأطفال إنه الشيء الوحيد المختلف عن محتويات جيبه المليء بالرصاص و الذخيرة.. ما كان ليبتسم .. لولا أن خُيّلَ إليه أن طفله « الوحيد» ممســكاً بها.. بيــديه الصغيرتين يلــعب بها معــه
لقد تعلق قلبه بطفلهِ كثيراَ..
لكنّ الوطن يرتجي من - حصيلة رجاله المتبقية - خيراً..!
كان لا بدّ له أن يستجيب لنداء وطنه ..
أن يدعوك الوطن و تشيح بوجهك عنه ..يعني أن استنفذت كرامتك في تلك اللحظة ..!
إنه أغلى ما يملك..
(وطن) تلك الحروف الثلاثة.. تحتضن أبجدية كاملة.. ودماء كثيرة.. وضحايا لا تُعد.. ومجازر لا تُحصى.. وأبرياء لا ذنب لهم...!
استعاد روحه العسكرية المتعطّشة للدفاع .. وأخذ يبتسم دون إحساس بها..
عند وصوله.. كان رفاقه الأبطال مرابطين خلف السواتر متأهبين لحظة ظهور العدو للانقضاض عليه..
كلٌّ كان يحمل سلاحه باستعداد مهيب..
أسلحة ذخائرها.. حب الحسين () والـولاء للوطن وتلبية نداء الـمرجعية..
وقفَ « جواد» عاشراً مع رفاقه.. ليتمّ تجهيزهم وأخذ مواقعهم لصدّ الهجوم عن «جبال مكحول» شمال العراق ..
في السيارة.. كان ينظر مليّاً الى السماء.. شيء ما ينتظره.. يجهل نتائجه ..
هو وأصحابه خيّم الصمت عليهم.. كأنهم يرسلون رسائل حبهم بصمتهم ذاك...
كلّ يسند رأسه لشيء ما.. و أحدهم أسند رأسه الى سلاحه..
ظلمة الليل بدت مرعبة.. و العدو متعطش لهدر المزيد من الدم ..!!
في خضم المعركة.. كان « جواد» يدكُّ الرصاص بسرعة حربية.. والرماد المتطاير يحجب عن عينيه السوداوين .. موقع العدوّ بدقّة..
بعد ساعــات مــن المعــركة الطاحــنة.. هدأت أصوات الحــرب.. وقفت الرصاصات في فوهة البنادق.. نفذت الذخيرة.. و حب الوطن باقٍ لم ينفذ..!
و «جواد» طريحٌ على أرض الجبل.. أرض المعركة الشرسة ..
بنظراتٍ متعبة.. راح يتفحّص وجوه النيام إلى جانبه.. يحاول لمح رمق الحياة فيهم..
ما من مؤشراتٍ حيوية.. غير أن عينيه قد غشيهما التراب حتى حجب عنه الرؤية السليمة ..
و البعيدون هناك.. ماذا عنهم ..؟؟؟!
يدٌ مبتورة .. و قدمٌ دونما ساق ..
أشلاء مبعثرة..
الدماء التي عانقت حبات التراب ..ماذا عنها أيضاً؟؟
أتراها مقدمة الموت ..؟؟
الشمس تصهر الجميع بحرارتها ..رغم برودة الجو.. إلا أنها كانت تزجّ لهيبها عليهم ..
إنها رائحة الموت تعبق في المكان..
تفحص ببصره من حوله جيداً.. جميعهم شهداء.. يــبدو انه الــجريح الوحيد..
لقد نجا من الموت بأعجوبة.. حاول الــقدر منحه فرصة للحياة.. مرة أخــرى .. إلا أنه كان عازماً على المضي قُدماً نحو الخلود..
بيدٍ ملؤها الدم والرصاص، والخدوش العميقة.. و بعد محاولات عديدة اسند يده على الأرض.. تمكّن من رفع رأسه قليلاً ليرى « وَهم» صورة طفله و اللعبة الصغيرة ..
لقد ملأها التراب ..لم تعد صالحة للعب الآن ..!
سحب الألم رأسه بعنف وأعاده ثانية نحو الأرض..
فقد وعيه...
أسدل يده.. وتدحرجت اللعبة.. حتى اصطدمت بيد دونما جسد.. إنها يد صديقه الذي بارك له ولادة طفله الأول .. قبل أيـام ولم يكن يعلم انه الأخــــير..!
يا لهول الفاجعة ..
جراحه بليغة.. و إصابته خطيرة لحدٍّ ما ..
والدمع أيضاً كان يخوض حرباً مع دمه..
أراد اللحاق بهم ..لكن الحظ لم يحالفه هذه المرة
في سيارة الإسعاف.. كان يائساً للغاية.. مشتاقاً لهم.. أولئك الذين ارتحلوا قبيله..
كانت دموعه تنهمر دون حسٍّ منه..
إنه فاقد الإحساس بما حوله..
قلبه المشحون حباً.. عاجزٌ عن العودة إلى وضعه الطبيعي..
عقله.. لا يزال ضجيج المعركة عالقاً به..
عيناه.. تعرض صور رفاقه كل لحظة
يداه.. متشبّثة بالسلاح ..
قدمه المبتورة.. شفتاه النازفة .. كل ما فيه كان يريد الرحيل معهم ..
لم يستطع قلبه المقاومة طويلاً.. كاد الشوق يذبحه ..
بعـد ساعات معدودة..
ارتحل «جواد» محققاً ما تــمنّى.. تاركـاً خلفه «أحلاماً لم تكتمل»..
ثمة صراخات مشجية تــطلــقها غيمات الــوطن.. إنــها تصيح بــهم.. تصرخ ..لكنهم كانوا كما اعتدنا عليهم « أموات لم يعلن عن وفاتهم بعد »..
يتلقون نبأ استشهاد أحدهم .. كما لو أن عصفوراً حلق بعيداً..
وحدها السماء تسمع استغاثات تراب الوطن.. إنها لم تمطر هذه المرة.. ولو أمطرت سترى الحمرة تعلو السماء.. ممتدة حتى الأرض..
وحدها الغيمات تبكيهم بحرارة.. بغزارة لا مثيل لها..
شيّعتهم عصر ذلك اليوم.. كانت تود لو أنها تكفلت بتغسيلهم أيضاً.. فأمطرت بغزارة واضحة لن تتجلى حتى تروي ظمأ قلوبهم.. قلوبهم التي لم تزل تنبض من اجل الوطن حتى حررته..
من سلسلة قصص كتاب ومنهم من ينتظر (الجزء الثالث) الصادر عن مركز الحوراء زينب (عليها السلام) في العتبة الحسينية المقدسة
زينب تاج
واحة المرأة
يعنى بثقافة وإعلام المرأة والطفل وفق طرح عصري