قصة الشهيد السعيد (ناصر عبد الحــر مشعان)

كمن ينوي حياة أبدية تطلع الى المكان، رسمَ في مخيلتهِ صرحاً خالداً بدلاً عن غرفةٍ خاوية، أحاط بعينيه كل ما فيها، ولم يكن فيها إلا سجادٍ بأطراف مهترئة طالته الأمطار فغدا ثقيلاً بمائه، أنهى أخوه المشهد مخاطباً إياه:

- امضِ بما نويت وستجدني خير معين لمن خلفك..

أومأ الى الآخرين ان باشروا تهديم سقف الغرفة..

بطيب نفس امتاز بها العراقيون، وبمعونة ولده وأخاه حملَ ما كان يقوّم سقف الغرفة من حديد، لبيعه مقابل أي ثمن.. معللاً لولده فعله هذا بالقول:

- ان لم نضحِ بسقفِ غرفة لنحيي بكرامتنا مرفوعي الرأس، فسنضحي بالوطن اجمع ونبقى متخاذلين منهزمين..

كانت تلك الايام - مطلع صدور فتوى النصر في الجهاد الكفائي- قاسية على المجاهدين..

العدو متوغل في مناطق عدة من بلدٍ جريح، مستقوياً بإعلامٍ مضلل وسلاحٍ أسنده به الكثير من أعداء العراق..

رغم ان الكثير هبّ للجهاد بماله إلا انه لم يوفر جميع الاحتياجات سوى أهمها..

فكان لابد من اعتماد المقاتلين على أنفسهم، ليوفروا احتياجات الجهاد.. ملابس تقيهم ذلك البرد القارس على قمم الجبال..

وأجور سيارات تقلهم من جنوب العراق الى شماله لمجابهة عدوٍ تمركز هناك..

رغم شدة تلك الأيام على المقاتلين، إلا انها كانت زاخرة بالانتصارات..

رأت عيونهم فيها ما لم يروه من جرائمِ قتلٍ وتشريدٍ للأبرياء..

عاشت نفوسهم ما لا يوصف من بهجة الانتصار بسواعدِ رجالٍ أشداء..

كان هو واحداً من آلاف، من هبّ دفاعاً عن الوطن ومقدساته..

لم يكن حينها يملك سوى غرفتين أكبرهما صغيرة..

في مكانٍ لا يُسمع فيه ضجيج المدن، استوطنَ فيه أصحاب النفوس الأبية المضحية..

أراد ذات مرة ان يلتحق بإخوته المجاهدين.. كان الشتاء في مطلعه..

وهو اشدّ زمهريراً على قمم جبال مكحول.. لم يجد ما يأخذه معه، ليقيه البرد هناك..

لذا اتخذ قراره بعد ان فكرّ ملياً بأطفاله وزوجته..

ان هو تخلى عن إحدى الغرفتين فستبقى الأخرى تجمع شملهم في غيابه..

 

أطلّ عليه فجر اليوم التالي.. أخبر أخاه بقرارٍ كان له من المؤيدين.. باع ما باع، وبات في يده شيئاً من المال.. كان اول من قصده.. صاحب محلِ يجاورهم لبيع الأغذية، غير انه كان مغلقاً..

توجه الى الآخر ابتاع لنفسه ملابس عسكرية وادخر الباقي لأطفاله إعانةً لهم في غيابه..

قبل المغادرة عاد..

عادَ ليُحَمِلّ أخاه أمانة تسديـد ما بذمــته مــن ديــن لجــارهم صاحــب محــل الأغذية..

احتضنَ طفله الأكبر وقبلَّهُ، مُربتاً على كتفه، موصياً إياه ان يهتم بإخوته وان كان صغيراً، استمدَ الطفل من ابتسامة أبيه الكثير من القوة والإصرار والكثير من الأمل..

لاحق الطفل والده بعينيه وهو يبتعد عن المكان.. عاهد نفسه ان تتخلل تفاصيل أيامه المقبلة، رضاً وقناعةً وتواضعاً كأبيه تماماً..

استذكرَ ما كان يردده والده دوماً « ان الإنسان لا يموت ان سلبت لقمة عيشه، بل يموت ذلاً ان سلبت أرض وطنه »..

التفت الى ما بقي من هيكلٍ للغرفة..

هناك كان يرى والده مفترشاً الأرض تاركاً على صفحات مصحفه المجيد بصمات أنامله متتبعة آيات الله..

ومن هناك ايضاً تناهى الى سمعه بوضوح دعاء والده  مناجياً ربه « اللهم ارزقني الشهادة »..

بعد أيام من المواجهات كان التاريخ قد سجلّ مرور (ستة عشر) شهراً على صوتٍ هادرٍ انبثق من قلب الصحن الحسيني الشريف..

معلناً فتوىً جهادية كانت مسلكاً للنصر.. للتحرير.. للخلود.. لجنةٍ عرضها السموات والأرض.

فتوى ألّّفت بين القلوب وحشدتها لمواجهة عدوٍ تكفيري.. فكانوا كليوثٍ لا تهاب المنايا، يتقدمهم ( بَقِيَّة اللَّهِ ) يشدّ أزرهم.. يبثّ في أرواحهم شيئاً من بسالة جده الحسين (عليه السلام) وصموده حتى ارتوت الأرض بطاهرِ دمه لِـتهبَ الحياة أجساداً ثائرة على مرّ الزمان..

قارب النصر على البزوغ.. وأمسى توعد الإرهاب كهشيمٍ تذروه الرياح

كلّم ناصر أخاه هاتفياً بعد عشرات الاتصالات المُخفقة.. أخبره بما يجري هناك على قمم مكحول، بما قدموه من شهداء لتحقيق النصر.. أوصاه بأطفاله خيراً.. التمس منه الدعاء.. ثم الدعاء.

مضت ساعات حتى انجز الله وعده لرجالٍ تاجروا معه، إذ واعدهم بقوله جلّ وعلا « إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ »..

حانت لحظة استجابة الدعاء.. ارتقت روحه مع السعداء برصاصة قناصٍ اخترقت شرايين رقبته، لتتَضَمَّخَ جبال مكحول بدمائه الزكية.. بعد ساعاتٍ متواصلة من المواجهات الضارية في ليلٍ أليل أبى ظلامه ان ينحسر إلا عن شهيد..

اُحضِر جثمانه متأزراً بعلم الوطن..

توسطَ أهلهُ في غرفةٍ صغيرة عُلق على أحد جدرانها راية حمراء خط عليها (يا حسين) ما ان تراها العين حتى يدرك العقل من أين استمد أهلها مفاهيم تضحياتهم..

فكانوا كما الحسين (عليه السلام) ودعَ مدينة جدهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) تاركاً داره وما فيه، جادَ بروحه وأرواح أعزته ليبقى دين جده هادياً لمن بعده..

حُـمل الشهيد على أكتاف أهله وأحبته متبوعاً بأهازيج الفخر والنصر.. فهكذا اعتادت بيوت الفقراء ان تزف الخالدين من الشهداء.. وأمسى سقف تلك الغرفة مخلّداً لموقف من مواقف تضحية الابطال تماماً كما خالهُ الشهيد قبل الشروع بتهديمه.. صرحاً خالداً..

أما ولده ذو الأعوام العشر فلم يشأ البكاء على والده، فهو على يقين ان أباه من الاحياء عند ربهم يرزقون.

من سلسلة قصص كتاب ومنهم من ينتظر (الجزء الثالث) الصادر عن مركز الحوراء زينب (عليها السلام) في العتبة الحسينية المقدسة

سارة محمد علي