الماضي: تلك البقعة المعتمة المتوغلة في أعماق ذاكرتنا، لطالما أنرناها كلّما اشتقنا إلى عبير ذِكراها، كم مرّةٍ هَمَسَتْ أمانينا في آذانِ واقِعنا.. علّ هناك آلةٌ للزمن، نخترقُ بها حُجُبَ الماضي وحدودَه لنَنتزعَ منه بقايانا التي عَلَقتْ هناك، كلّ ما كان مألَفَ قلوبنا المرهفة، وكلّ ما كان صوتاً لضحكاتنا الصادقةِ المحفوفةِ بالأمل، وكل ما كان بلسماً لجراحنا العتيدة.. ضقتُ ذرعاً بصرخات الأماني المتعطشة للماضيّ وما حواه، حان الوقت لأبحثَ عن آلةٍ للزمن، أروي بها ظَمَأَ آمالي التي لا تسكن أو تهيد، وبدأتُ أبحث عن كل ما يوصلني إلى ضالتي التي أريد، بلا هوادة، لكن... دون جدوى... وبعد أن سَرَتْ خيوطُ اليأس داخلي ونَسَجَتْ نسيج القنوط، هَمَسَ صوتٌ في أُذُني، آلةُ الزمن داخلك!

أصغيتُ بعناية للصوت وفهمتُ ما يقول، وشرعتُ بحماس أصنعُها، جميعُ تراكيبِها جاهزة سليمة، على ما أعتقد.. وحسب ما أتذكر في أخر مرّة تركتها.. أوّل تركيب لها وأهمّها القلب، وجدتُهُ صَدِئاً في الواقع وأخذَ منّي مأخَذاً من الوقتِ لتطهيرهِ من الصّدأ، واستعنتُ بكلّ ما ادخرتُ من حواس، ما ظهر منها وما بطن، هيّئتُ لروحي مكاناً لِتأخذَ بزمام الآلة ولِتأخُذَ دور البوصلة لِتُحَلّق فيَّ حيثُ أُريد وبهذا قربتُ على الانتهاء، وما بقي إلا أن أملأها بالوقود، وكان غزيراً ما أملك منه، كان العشقُ والاشتياق وَقُودها.

 أتممتها بسلام، حان وقتُ سفرِها، كتبتُ تاريخ وجهتي التي أريد، لم أصدّق بأنّ حلمي سيولد حقيقةً ، (الثامن عشر، ذو الحجة، السنة العاشرة للهجرة) حُلمُ العاشقين... بعد أنْ وضُحَتْ وجهتي حبستُ أنفاسي وضغطتُ على زرّ البصيرة، لم أشعرْ إلا بدوامةٍ من النّور وأنا داخلها، قذفتْ بي إلى غدير! لم أعلم  إذا كنتُ في المكان الصحيح لكنْ قمتُ بتَحسّسِ ماءِ الغدير، ذكّرني صفاؤهُ بقلب علي، وعذوبتِهُ بكلماتِهِ... لم ألتفتْ لِمَا حولي حتّى سمعتُ هَرَجَاً ومَرَجَاً ، قمتُ وإذا بأُلوف النّاس مُجتمعةً تنظرُ شيئاً، شققتُ الصّفوفَ وكأنّي غير مرئية لهم، حتى وقفتُ عند مشهدٍ أذهلني لم أكَدْ أُصدّق عيناي، هاتان اليدان المرفوعتان كأنّهما أعمدةُ السّماء، هما لَأطهرِ من وطأَ الارض، اقتربتُ لأرى طلّتهما البهية القدسية، لكن.. هالاتُ نورِ وجهيهما منَعتْني، ثَبُتَ ناظري المغرورق بالدموع كمسمارٍ في لَوح وقفتُ لتأمّلِ مشهدٍ حَمَلَ على راحتيهِ مصيرَ كلّ من عَشِقَ علياً وألِفَتْ أُذنَهُ اسمَهُ واطمأنتْ له، كانا جبلان راسيان فوق بحرٍ من الناس يموجُ بعضُه ببعضٍ من أثرِ سَيلِ الدّهشة، مضى هذا البحرُ بقطراته نحو "علي" حتى اقتربَ واستحال نهراً بلْ جدولاً أمام علي ، وشَرَعَ كلُّ محبٍ وقَدَّمَ قلبه ليصافحه ويعلنَ له عن ولاءٍ مكلّلٍ بإخلاصه وعُمق أمانه وسلامة بصيرته، وقَدَّمَ كلُّ مُبغض يَدهُ وصافحه مطوقاً بنِيَر المذلّة، وقد صرع واقعه أمانيّه وأحلامه، أمّا أنا فقد هامتْ روحي وهي تبايعُ علياً وتسلّمُ عليه بإمرة المؤمنين ، من يضارعك فضلاً وكرامةً وعلماً... بخٍ بخٍ لك يا أمير المؤمنين أصبحتَ مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة، لازال صوتُ الولاء لك يتجدد منذ هذه اللحظة الى يومنا، ينفثُ في أصلاب الرّجال وأرحام النساء التي حوتنا، دفعنا ضريبتها غالية دفعنا الدماء تِلوَ الدماء، لنسقيَ تربةً غرسْتَها بيدك فأثمرتْ فينا الكرامة والعزّ والإباء.. سيعود جسدي الى حيثُ كنتُ وستبقى رُوحي هنا حيثُ غديرُ خم تصدحُ بولائِها لك دائماً وأبدا.. لبيك يا علي.

سارة الذهبي