تعقيب السيد محمد الفاضل حمادوش المفكر والباحث الإسلامي الجزائري على موضوع (لا بديل لها.. الفتوى) للكاتبة إيمان كاظم:
لا أعتقد أن عربيا قحا، أو مسلما متمثلا لإسلامه، واعيا لمقتضياته، لا يحمل ألم العراق، ولا يلقي بالا لوجع هذا الجرح، الذي مازال ينزف.
إذا كانت لنا حضارة نفخر بها، ومجد نعتز به، وتاريخ ينفسه علينا غيرنا، ويحسدنا عليه شانئينا من الموتورين، أو الكائدين، الذين بدت البغضاء من أفواههم، وما تخفي صدورهم أكبر.
إن صنيع العراق الثقافي، والعلمي، والحضاري، عبر التاريخ المديد، هو من أثار حفيظة هذا العدو التقليدي، أو هذا العدو العنصري، لأنه يحدس أن إمكانيات هذا البلد، أو إنسانه بالذات، الذي يحمل جينات حضارية، ومورثات ثقافية وعلمية، يمكن أن يخرج من قمقمه ويعود ليس إلى ما كان عليه فحسب، ولكن في صورة مركبة، تثمن القديم، وتستصحبه، وتهضم الجديد، وتفجره، أو تستوعب وتتجاوز، أو تتمركز لتقفز، أو تستوي على السقف، لتدخل مضمار السباق، وتتصدى للمنافسة، وتبرز للمصارعة _ لا لأنها مجبولة ومهجوسة، بالتفوق الصناعي، والإنتاج المادي، وإن كان من مقومات جسدها، وعضلاتها، وحاجاتها الصحية، كاستواء على عرش القوة وأسباب التمكن، الذي لا غنى عنه _ بل بمنطق الرسالة، وبالأمن الذي تثبته، والسلام الذي تنشره، أو بما الإنسانية في مسيس الحاجة إليه، والنموذج الثقافي والحضاري الحالي أو السائد، أحوج ما يكون إليه، وقد طفت على سطح جسده البثور، ومسكته العلة، أو تغلغلت الأمراض المستعصية في أحشائه، وأخذت الأزمات السياسية، والاقتصادية بخناقه.
كيف الحال ؟، أو ما السبيل إلى المخرج ؟، لا مناص من الاعتماد على الذات ؟، والجرأة على شق الطريق بتجسيد الإمكانيات التي تحت يدنا، وتحويل المعطى الذي نملكه، إلى فعل وحركة متصاعدة.
والحال أن الأمة العربية ممزقة، وأهلها متلاحون، متناكفون ؟!، أو متصارعون متقاتلون؟!، يستقوون بالأجنبي على بعضهم البعض، وعدوهم يقتطع أرضهم، ويسلب مقدراتهم، ويهزؤ بسيادتهم، ويرهن مستقبلهم، وإعلامه يشوه صورتهم، ويمتد إلى تاريخهم ورموزهم، فيمرغهما في الوحل، ويلطخهما بأوصاف مقززة، ومنفرة، والغاية من ذلك كسر معنويات الأمة، والحط من قدرها، ويذهب إلى أقصى الخبث والمكر، في مخططاته الجهنمية، وحيله الشيطانية، تحريك الأقليات وتوتيرها، والاستغلال البشع للمذاهب، لخلق اللا استقرار واللا أمن، لتوفير أسباب الفوضى الخلاقة، ولإيجاد مبرر التدخل، بإسم الديمقراطية حينا، وباسم حرية الاعتقاد حينا آخر، وحماية الثقافات الفرعية، والهوايات القاتلة، كغرض مبيت، أو لغم لتفجير المجتمعات، أو إفقادها تماسكها، وتكر السبحة لتصل إلى المجتمع المدني، والمواطنية، وأشياء أخرى، يستحي الإنسان أن يذكرها.
وعليه هذا الانكشاف لم يكن ممكنا، لو كانت الأنظمة السياسية لدول الأمة العربية، كامل الحرية في تصريف شؤونها، لكن للأسف والأنظمة العربية قد اختارت الإستقالة، أو كانت أنظمة《نخبوية》، أو عصبيات وعصب، هدفها الإستئثار بالحكم، لتكريس مصالحها الضيقة، وتأبيد سلطتها، خارج إرادة الجماهير، ولذا من الأحرى والأولى، أن لا نضعها في مستوى المسؤولية التي تتقلدها، وأن لا نحسب أنها تشعر بالعبئ الملقى على عاتقها، وتقدر حجمه، وهو ما يهيؤها، لأن تكون عرضة للإبتزاز، أو توفير الفرصة المجانية للأجنبي، لكي يتدخل، بل يتوغل في داخلها، فيوجه ثقافتها وتفكيرها، ويتحكم في علاقاتها السياسية، ويستغل مواردها الإقتصادية، والمالية، وأن يكون القيم على مخططاتها التنموية، حتما سقود هذه الخطوات، إلى تصفية عوامل القوة، وإلى ماوراء ذلك، إماتت عناصر المقاومة، والزهد أو نبذ العلاقات التاريخية والثقافية، والتحرش بمن هم أهل قرابة، أو شركاء في المصير، أو تجمعنا بهم، أقدس رسالة، وأرفع مبادئ، وهو ما يرتب واجب التواشج، والتشبيك، بين أجزاء المنطقة العربية، والإسلامية، أو بين أوطانها ومجتمعاتها، ومد اليد وبسرعة إلى كل وطن منكوب، وتناول قضايا كل مجتمع مجروح، أو إعتبار محنته، محنة الوطن العربي والإسلامي، بل محنة كل فرد على حدة.
أستدرك فأقول : إن كتابتي هذه، كتابة باردة، تعوزها العاطفة الحارة، والمشاعر الجياشة، التي تندلق من عقالها، وتنفلت من وضعيتها العادية، لتعانق قضاياها، وتلتحم بها، وتنكتب في صورتها الحية، فتبوح بنبضها، وتكشف سرها، وتسمع لأواها، ومكابدتها، وترفع دعواها إلى أعلى خصائص الإنسانية، وهي تفعل هذا، تكون قد إنطوت على روح، تشبثت بآدميتها، وشمخت على مقتضيات تربتها، وتحررت من علائقها الطبيعية والعرفية، وإرتقت إلى《سنة التعارف》، فمن مستواها، ومن موقعها الذي هي فيه، دون أن تخرج من جلدها، أو تزهد في ذاتيتها، وثقافتها، أو حتى تتخفف من ثقلهما كعبئ، يبطئ حركتها، ويركد فاعليتها، وحيويتها، ويعيق انفتاحها.
قد يسجن العقل في فكر《سكولاستيكي》أو مدرساني، في بحر مرحلة تاريخية، يتوقف العقل عن العطاء، والفكر عن الإبداع، ويكونان مستهلكان، في مفاهيم، ومصطلحات ميتة، تحيل إلى الماضي، أو تعيد أفكاره في عملية إجترارية، مبتوتة الصلة، بعلامات الحمل والإرهاص، و
لا تعرب عن عسر الوضع وأوجاعه، ولا على بشرى الولادة، والدهشة، اللتان تحفهما، والغبطة التي ترافقهما.
في هذه الحالة، أو الوضعية، تكون الأفكار قد فصلت عن تاريخها، وقطعت عن نسبها، ولم تنبه إلى نسغها، ولا تعبر عن وظيفتها الاجتماعية، ولا تردفنا على قراءة مسمياتها، لأن ما ضاع منها بفعل الزمن، وما اندثر منها بفعل السهو أو النسيان، وما حذف، أو ألغي، أو طمس، أو وضع في سلة المهمل والمهجور، عفوا أو بتعمد، بفعل الصراع، بإرادة الإساءة إلى هذه الأفكار، إما بحرف معانيها، أو بتأويل يطال ماهيتها، فيعطي الأولوية للمرجوح على الراجح..
وبكل الأحوال فإن الماضي، بكل زخمه، وعنفوانه، وألقه، وعظمته، وبالرغم من تمكنه منا، ورسوخنا وتجذرنا في محتوياته، وهو مازال، يتلبس تفكيرنا، ويرعى علاقاتنا، ويصنع إجتماعنا، بنسبة معتبرة، ويكيف مواقفنا، وردود أفعالنا، وينهض إستجاباتنا العاطفية، والمشاعرية، ولكن ليس دائما بما يلبي أهدافنا، ويخدم قضايانا.
قد نجيش ونحشد من خلال هذه الإستجابات، بما يكون وبالا علينا، إما بتمزيق وحدتنا، أو نهش علاقاتنا، أو إسترذال ذاتيتنا، بتقزيم تاريخها، وإختزاله، في 《بداوة》أصلية ، يصعب تجاوزها، مع أنها، مرحلة في العمران، المرور منها إجباري، إلى عمران حضاري، شاهق، مزدهر، أرفع مقاما، وأعظم شأنا، وأوسع فضلا، أعمق تركيبا، وأغنى تنوعا، ومع هذا تلصق هاته البداوة، كعاهة، أو عيب تكويني، في جسم الحضارة العربية الإسلامية، وتاريخها، أو بالعرب تحديدا، تستحيل إزالته، أو الإنسلاخ منه، وهو الذي رافقه، أي العربي، كمرض مزمن، أو كعنصر كابح ومثبط، أعاق مسعاه، في أن يذهب إلى مداه، ويستقر في علاه، ويتواتر نداه وجناه،《كذب المنجمون ولو صدقوا》، هذا رأي الآخر وتأويله، أو ما يستنتج من معقوله، ويفصح عنه مقوله.
هذه شنشنة نعرفها، من كل خصم لدود، ومصارع حسود، يأبى إلا أن يسود فهمه، وينبسط وعيه، وتفرض لغته، ويحكم منطقه، والغاية واضحة، إستغلال المجتمعات، وضبط ايقاعها على ضبط ساعته، والنبش في تناقضاتها، وبؤرها المتوترة، قصد تضخيم ما هو أتفه، أو ما هو قشري، وعرضي، وإبعاد ما هو جوهري ومحوري.
وما إستدعاء خلافات ماضيها، ودفعها للإنخراط فيها، بألف وسيلة ووسيلة، بمنطق تحريضي، ولغة مفخخة، إلا تأكيد لهذه النية المبيتة.
المشكلة ليست في الإختلاف، كشيء طبيعي وسنني، أو كأمر واقع ليس بالوسع دفعه، أو شطبه، لأن ذلك يعني الطوبى، أو الخيال المجنح، في نص أسطوري، أو شعري، أو قصصي، أو الفكرة المجردة في عقل الفيلسوف، للتخلص من الحمل الثقيل الذي يفرضه الواقع، كمعاناة الحيرة، والقلق، أو مكابدة التفكير، في قهر الواقع، أو تدجينه وترويضه، للتمكن منه، وإخضاعه لمخططاتنا وأهدافنا، وإلا أركسنا هذا الواقع، وقمعنا بعتمته وكثافته، وتناقضاته، واستغرق قوانا العقلية، وأنهكها فيما لا طائل منه، وعليه فإننا إزاء صور ذهنية، تتقاذفنا، وتعبث بنا، كما تعبث الريح بشيئ خفيف، أو يفتقد إلى الوزن، تصعد به، وتذهب به، ذات الشمال، وذات اليمين، وأخيرا يسقط على الأرض.
لأن هذه الصور الذهنية، ليس لنا فيها، ناقة ولا جمل، وليس لنا جهد فيها، وأكثر من ذلك، فلها صلة رحم بفضاء آخر _ الرحم الثقافي طبعا _ وتصدر من سياق آخر، أو به، وعنه تشكلت، وهي بطبيعتها متعددة وتعددية، حسب الأوساط التي أخذت منها، والثقافات التي صاغتها، والحضرات التي أنتجتها، فتمثلها مشكلة، وتنزيلها وتكييفها أعوص، وإذا فإعطائها مشروعية وشرعية، لا يسلم من مخاطر تنطوي عليها، ونتائج غير مأمونة قد تجرها، إنفاصام الذاتية، والتلفيق والترقيع، لمشاريع لا تنجو من التضاد، والتعاكس، والراجح تصادم تفاصيلها وجزئياتها، لأن في هذه الآلية نفتقد إلى الحقل الموحد، لمفردات المعالجة، أو للروح الواحدة، التي تسري في هذه المفردات، وترفعها إلى الإستجابة المعتبرة، وتوطئ الأكناف، للقابليات، فتنفعل، وتتفاعل، ثم تنبسط وتتفتح، لأنها شدت إلى إيقاع تاريخها وثقافتها.
لم أكتب هاته المقالة، إلا لأعبر عن المشكلة، التي عبرت عنها الأستاذة الكريمة إيمان كاظم، ولكن بطريقة أخرى ، وبأسلوب مختلف، لقد حاولت جهدي، أن أرتفع إلى القمة، التي كانت تخاطب منها مجتمعها، والعالم العربي، والعالم، بأسلوب شاعري، وبكلمات اختيرت بمنتهى الدقة، ولكم كان تأثري بالغا، وحزني سابغا، لما يتعرض له عراقنا العظيم، فلم أصل إلى هذا الشأو، ولم أبلغ هاته المنزلة.
السيد محمد الفاضل حمادوش
واحة المرأة
يعنى بثقافة وإعلام المرأة والطفل وفق طرح عصري