دائما على سكة (التوصل) - ولكن قبل ذلك فيما يتقدمه، ويمهد له، ويؤسسه، ويرفعه كحاجة ماسة - أو في ركابه مواكبة، ومرافقة،  ولكن لا كتبني مطلق له، وإخلاء الذات ككل ما من شأنه، أن يعترض، ويتحفظ، أو يشكك وينقد،  أو يؤول ويرجح، أو يميل إلى ما يتحصل لديه من أنه المعنى الأقوى، والفكرة الأوزن، وأن لا يسحر بالجدة التي لا قبل له بها، أو تطرق عقله لأول مرة، فينخطف لها، ويؤخذ بإمكانية الطرح التي لا يملك مقاومة له، أو بهيمنته الحضارية، ومركزيته الفكرية، وأن يراه أو يحسبه قد إستل إستلالا مطلقا من تأثيرات محيطه الثقافي،  وعقده الحضارية، وأزماته السياسية، وعنصريته،  وتمحض للصدق الذي لا مجمجة فيه، في معالجة مشاكل الإنسان، في الأطراف، والهوامش، وتناول بمنتهى الجد قضية التفاوت التاريخي، وما أحدثه من أعطاب، وفجوات، أوهوة لايعبرها الخيال، بين إنسان القمة، وإنسان السفح، فهو يزعم أنه فكر عقلاني تنويري، يتميز بالرصانة، والموضوعية، فهو لا يقترب من موضوع إلا وكان التجرد رائده، والوصول إلى الحقيقة حافزه، وحاديه، والحقيقة كواقع أو كسيسيولوجيا في عرف نمط هذه العقلانية، ومزاجها الثقافي، وفي التوتر الذي يسكنها، والإستشراف، والتوقع الذي يتشبث بمخيلتها، وفي كل ما يثير الخوف، من ترنح حداثتها، وتزلزل أرضيتها، وهو ما يهدد بانقضائها، أو على الأقل رجحان كفتها، يقلل من هذا الزعم ، وهذا الإدعاء، الرصانة، والحياد، والتجرد.

قد تكون النهايات إنذارا بذلك، نهاية العقلانية ونهاية الإيديولوجيا، ونهاية القومية، ونهاية الدولة _ الأمة، ونهاية التاريخ.

وماذا ينتظر من إنصراف السرديات الكبرى، ورحيلها من عالمنا الفكري، والثقافي، إلا انتفائها من واقع حضارتنا، وبالتبع إنهاء كل السرديات التراثية من المدنيات، والحضارات السابقة، ليس على المستوى التاريخي، بل حتى على مستوى الإيحاء والإشارة، والتي لعبت أدوارا مهمة في وقتها، وكانت لها اليد الطولى، والمساهمة المقتدرة، في ولادة هذه الحضارة، أو خرجت من أرحامها، ورضعت من أثدائها، ونمت وكبرت، أو نضجت وتبلورت من معطيات معارفها، وخبراتها، وتجاربها، ورحيل السرديات الكبرى، هو الذي مكن لحلول السرديات الصغرى مكانها، أو فتح لها السبل لتشتغل، وتكتسح كل ما هو جزئي للحياة المعاصرة، وأساليبها، أو للرؤى وآفاقها، أو  الإيديولوجيات، وألاعيبها، أو اليوتوبيات وأوهامها، أو في تحفيز الفرد للتشرنق في إنهمامه، ككائن يلهو بالاستهلاك، ويستهلك حياته أو عمره، في كل ما هو طارئ وجديد، أو تأخذ الموضة، أو التقليعة بخناقه، فهو يلهث وراءها، ويقفز بين ضفافها، بحثا عن الاستمتاع اللحظي، والنشوة الخاطفة، وبريق المعنى العابر، الذي سرعان ما يذوي، ليترك تجويفا وفراغا، يغدو فاغرا فاه، ليلتقم، ويزدرد كل ما يلقى في بطنه، أو يقذف فيه، لأن بطنه صار يتقبل ذلك، فلا صمام في حركة تقلص وتمدد دائمين، أو في حالة انشداد وارتخاء دائبتين، فلا يسمحان بالمرور الاعتباطي لأي شيء، إلا من خلال مصفاة القيم، أو ما روضته، ودجنته الثقافة، وذلك بغربلته، وتصفيته، وعركه، أو عجنه.

أو استبيح عقله، وانتهكت حرمته، فلم يعد يستقر عند قاعدة، ولا يشد نفسه إلى إحداثيات، تحكم حركة العقل، وتضبط فعل التفكير، لأن ما كان مصدر ومرجع ذلك، أو الذي يوكل إليه تموين العقل 《الجمعي، بمستحقاته، أو ما به تؤدي هذه الوظيفة أنبل مهامها، أو ما به يتشكل فكر سائد، الذي تعيش عليه أجيال وأمم، أما وأن هذا العقل قد توقف، أو لم يعد بإمكانه أن يستمر،  لأنه لم يعد يستوعب المعطيات الجديدة، وحتى الاشتغال عليها، أصبح متعذرا عليه ذلك.

ولقد اصطلح على هذا العقل، بـ 《عقل الذات، وأشفعوه بـ وعي الذات، كتجلي، أو منتوج، لهذا النمط من العقل، فعقل ديكارت، أو عقل كانت، أو عقل هيجل، أو عقل هوسرل، أو عقل الطبقة كـ طبقة البروليتارياأو الطبقة النقيضة لها، وقد اضطر، أو أكره هذا العقل، لأن يتخلى عن مكانته، وينزاح عن موقعه، لأن غربته إشتدت، وعزلته تفاقمت، أو لأن جفافا ألم به عقب تخمة دهمته، وإعترته.

بسبب سيطرة الضبط العقلاني، والتحكم البيروقراطي، والمسخ، والتشويه، والاختزال، الذي مارسته التقنية، كفعل فوقي، وخارجي، خرج عن سيطرة الإنسان، فإحتوى عقله، وصادره، كما أخضعه إلى خصائصه الصماء، وصبغه بآليته، أو عده أحد مفردات الطبيعة، وأشياءها البكماء.

أو على أكبر تقدير، هو من جنس 《العجماواتولتكن من أوابد الصحراء، أو وحوش الغابات، وهي في المتناول، وتحت اليد، لتروض، وتدجن، وتستغل، وينال منها نفع، وقد قلنا قبل هذا، وهو قول أقرب إلى روح هذه الحضارة، وألصق بمزاجها المدني، أن الإنسان كالأشياء المحض مادية، أو حتى في مراتبها الوجودية، إذن فهو بين يدي التصرف والتصريف، بما يخرج عن إرادته، ويقطع مع آدميته، بما لا يتصور من السهولة، وبمنتهى السلاسة، أليس هذا الذي هو بالذات، الذي أخرجه من تكوينه الروحي، وتركيبه العقلي والنفسي، وقلم شجرة قابليته، وأوقف ليؤسر في المعنى الغفل، أو ليكون نكرة.

أو ليصير هذا الفرد الآخر، مترسب في قاع حضارة السوق، والعائم على وجه كل ما هو كتلة وجمهور، وبشر لا حدود لكتلويته، وجاهزيته، وسواده المتجانس، غير المنقطع، ولا المتقطع، في أي بقعة من لون جلده الأسود الفاحم، لا كلون فقط، ولكن كحيز جغرافي، وآخر ديني، أو ثقافي، أو حتى عرقي، ولغوي، هما معا توأمان في قاع السوق، أو مستوعبان في حطامها، و  《عفشها، أما أحدهما فيمثل وعدا قديما بحق الإنسان بفرديته، منذ جان جاك روسو، والآخر يشكل برهان الفشل الدائم، قد يكون هذا الفشل((السقيفة))، أو حرب ((الجمل)) أو ((صفين)).

السيد محمد الفاضل حمادوش