قد يعتقد الانسان أنه يتوفر على امكانيات ويحوز خامات غير مكتشفة ولا مصقولة ويطلع في ذهنه أن الحياة التي يتمتع بها كهدية أو هبة تدعوه بإلحاح إلى الالتفات اليها، وتحثه على تقديرها وتكريمها، وعليه فحريّ به أن يحسن التصرف بها وأن ينفقها في الموارد التي تزيد في تزكيتها، وتخلع عليها رشد العقل وقدسية الرسالة ويحرص على أن تبقى في تدفقها ونضارتها، أو مورقة مزهرة مثمرة، تسرّ الناظر وتلذّ المتذوّق وأن يتعهدها بالحماية والرعاية، يدفع عنها الآفات والجوائح وهو يفعل هذا يجب أن يكون المعنى رأس ماله، والرمز حاجته الأكيدة، وإذا تحركت طبيعته، وإستثيرت نوازع فطرته تطلبا لرحم يجد فيه حاجاته العقلية والروحية والعاطفية وتوقا لأن يولد ولادة جديدة، ويهيأ ويعدّ للعطاء والإضافة، أو لكي تبرز ملكاته، وتشتدّ مؤهلاته وتتعملق، أو ليكون شخصاً له نسيجه الخاص، وبصمته المتميزة، ويتعين أن هناك موقعاً في الحياة والوجود، وفي تضاعيف البشرية وطائفة المسلمين وصلة المؤمنين لا يحتله إلا هو، أو يبقى شاغراً،  وهو لا يُلقى في هذه الرحم مكرها، ولا مضطراً، ولا يلجها عابثاً ولا تزجية للفراغ أو مكاء وتصدية..؛ بل يدخلها حازماً عازماً مستوعباً ومتجاوزاً مخترقاً ومبدعاً وربما خاشعاً ومتبتلاً وربما ناسيا ومتذكرا أو تاركاً وواجداً أو معرضا ومستقبلا أو متحللا ومشبكا أو مجافيا ومتوددا ومفككا عقدا وعاقدا أخرى لأن هناك في كيانه وفي سرّ طويته ما يسر إليه ويخبره بأن لا يماطل ولا يسوف، وبأن يحزم أمتعته ويرحل على الفور إلى الأرض الجديدة، إلى انتماء مريح ومطمئن، وإلى ولاء معتصم ومعصوم أو مكرس للنفاذ إلى معرفة أنوار عرش الحق؛ لأن عقله مجّ الألف والعادة ومشاعره انقبضت من سردية مكرورة غير مبالية بتعطش الانسان إلى الما وراء ولا تولي كبير اهتمام لمسألة الكينونة ومسألة القيمة ومسألة الحرام أو المقدس ومسألة  التعالي ومسألة الحب ومسألة العدل أو العدالة ومسألة الرغبة في الخلود والبقاء الأبدي، وهذه السردية المنصرف عنها تحكي كونا يخلو من العلامات بشكل موجع وهي التي تؤنس الانسان وتوسع مدى الحياة وتضاعف المعنى وتمكن للرموز كسموق في الهمة وكسقف للوجود وكبطانة للوجدان وكعزاء على النقص والعوز وكتعويض على الخيبة والفشل وكمواساة على الفقد والحزن وكبلسم على الكلمة الجارحة والنظرة النابية ولعل التهميش القاتل للمواهب والمزلزل لكيان الانسان أين يشعر الانسان بالاستخفاف والمهانة كأنه حطام أثاث أو بقايا طعام يلزم أن يتخلص منها وهي حرقة تنفي الراحة وتلغي الرغبة في الحياة توسّل الشفاء منها متعذر، إلا الفناء في الرمز أو الذوب في الولاء وهذا مستوى قد لا يتحقق إلا للنادرين من الرجال.

وإذا كانت هذه الرحم، ملجأ ومنجى، أو مأوى ومعتصم، يربّى فيها الوعي، ويرزق فيها العقل أوده، وينال فيها سيادته، بقدر ما يحوي الواقع،   ويهيمن عليه، أو يبلعه ويهضمه، ليعيد تصنيعه وهندسته، وتينع فيها الأخلاق وتزهر، أو تغلظ ويصلب عودها، فترسم للنشاط سويته، أو تمسكه بتؤدة وحنوّ، فلا تدعه يفلت، أو يشتطّ ويشرد، تغدق عليه مادّتها، وتوشحه بمزاجها،  وتصبغه بلبوس الأناقة والرشاقة، وتصنع له القبول والحميمية، وهي  أي _ الأخلاق  – تكمل ما قصر عنه العقل، وترمّم خلل الجهد، وتواضع الذكاء، وشحّ الخبرة، وهي التي توقظ الكوامن، أو تحيي الرغبات الدفينة في كيان الإنسان، المعلقة في حبل الروح، أو المخبّأة في حُقّ الغيب، فتطغى على السلوك، وتأخذه بمسلكها، وتراوده لينفذ من مصفاتها، ويسعى بإشارتها، ولا يربط ويتّصل، أو يتحلّل ويكف إلا بإيمآتها، ولا يعفو  ويصفح، أو يعرض ويمانع إلا بما توحيه وتقتضيه، وهل تكون هذه الرحم غير إطار أو حقل، أو فضاء خاص، أو عمومي،  يفيئ إليه الناس حشوداً لينتظموا،  أو يهرعوا إليه أفرادا،  كحبات السبحة، ليتراكبوا منضدين في سلك واحد، أو يأتوا مستّتين ومبعثرين، أسماءهم نكرة، وألقابهم مغمورة، وأغراضهم شتى،  وإيراداتهم خائرة واهنة، أو غائرة و ذاهبة، والإنسان لا يفتح قفل هذا الإطار، أو الحقل، أو الفضاء، إلا ليدخله ويتوغّل فيه، تحدوه تطلّعات، وتسبقه آمال، وتعلق به مؤشرات تصورات، وأفكار ليس لها بالعقل صلة ولا بالمخيلة قيد ولا بالوهم نسب إلا ما يسكب في روعه أو يُغدق على قلبه ويلامس عقله عفواً، من نزر إلهام ويُسر تحديث، إذن فالإقبال ليس على أطر سياسية تحكمها تجاذبات و تقاطبات طبقية وتتملّكها الرغبة لتخوض صراعاً محموماً لتحوز السلطة، أو تكسب موقعاً محترماً، وتجازى بوجاهة وحتى الفرد المنتمي يجد نفسه في هذا الإطار وضمن مجموعته، مرغما على الصراع والمناورة؛ لأنه يجد نفسه في قبال خصوم، وتحالفات، وتكتلات لا ترحم وهذا الفرد قد يجد نفسه معزولا, ضائعا، تائها، لا يجد حيلة للتلاحم ولا للتشابك؛ لأنه عاطل من الحلي، فاقد للبهرجة، وكيف يرى ويحس به، أو يوزن وتعطى له قيمة وهو في وسط  يزدحم بالهامات الضخمة ويضج بالألقاب الفخمة وبلغة أخرى لا يعثر على نفسه وقد استحال إلى هباءة أو قشه تتلاعب بها الرياح وصار شبحاً  أو صدى لا روح له ولا قوام لأن الفضاء الذي ارتاده والحقل الذي انسرب إليه أو غشيه تخيله أو تصوره عالم طهر ونقاء أو عالم صفاء وشفافية الصلات والروابط فيه هينة، لينة، سلسة، تتصافح فيها العواطف وتمتزج فيها المشاعر استجابة لنفحات المفارق وتفاعلا بوهبه أو هي رشح من الحقيقة المحمدية أو هي تنفس صبح الولاية وتمام التحرر من الجناية والوشاية.

السيد محمد الفاضل حمادوش