ما زلت اتذكر... كان شعوراً لا إراديا بالخوف كلما تحرك الهودج أمامي خشية سقوطه، أُغمض عينيّ بشدة ثم افتحها على حذر، اعود لاستراق النظر بين الجموع إلى الهودج ذاته...
آنس اذا رأيتهم سالمين فيه, وأتحين الفرصة لتصفح وجوههم مرة أخرى ابحث عن نصف ابتسامة لأبادلها بأكبر منها، اتوق لرؤية ذلك الطفل الذي بالكاد ارى قماطه الابيض يتوسط بينهم، وذلك كل ما يشغلني منذ نزولنا من السيارة على مشارف كربلاء وانا اتأرجح على رأس والدتي وقد احطت رقبتها بذراعي وتمسكت بشدة حتى وصلنا الى نقطة التفتيش وما ان انزلقت من على متنها الى حضنها حتى دسست راسي فيه اشم عطر أنفاسها وامسك بجدائلها من خلف حجابها لم افكر بالنظر الى وجه امي فقد خيل لي انها سعيدة لأنها كانت تسير بخفة رغم تعبها ومرضها.
بعد التفتيش انطلقنا وأنا ادور ببصري كالتائه بين الجموع بحثا عن ذات الهودج حتى رايته ملقى على ناحية من الشارع وقد خلى من الصغار الذين كنت اتابعهم فبكيت وصرخت واربكت امي وحجابها فنادى احد الزائرين انزليه وانتبهي لحجابك.
ها انا انزلق من على كتف امي اشعر بالاختناق لكثرة المارة وصعوبة الرؤية ولكن نزولي لحسن الحظ كان باتجاه الهودج فتحركت لاتجه نحوه فما كدت افلت يدي منها، حتى قبضت كفي بقوة وسحبتني والمتني فصرت اصرخ بصوت عال اريد ان انظر إليه والذي بدا خالياً!..
رغم تسرب الحزن إلى قلبي الا اني كنت اتأمل رؤية الاطفال او معرفة اين ذهبوا، فاذا بأمي تشير الى موكب يسير فيه جمع من الفتية بوجه مفجوع وجفون محمرة وهي تمسكني بيد وتلطم بالأخرى على راسها ثم سحبتني لأنتبه ولكني تمكنت أخيراً ومع انشغال امي ان اتسرب واتقرب للهودج بدا لي كبيرا؛ كبيرا جدا؛ لم استطع النظر فيه إلا وامي تحيطني بذراعيها وترفعني الى متنها مرة اخرى لكني رأيت كل شيء.. رأيت الطفل ملقى في وسط الهودج و ثوبه الابيض مضمخ بالدماء وشيئاً ما كالعصا قد دخل في رقبته.. فزعت وارتبكت وفزعت امي لفزعي وجذبتني الى صدرها لتبعدني عن ذلك الخطب المروع, اما انا فقد كنت اصرخ كالمجنون ويتعثر لساني بكلمات استغاثه دون جدوى...
أربعون سنة مضت وما زلت لا اعرف لماذا قتلوه؟!
كان رضيعاً يا أمي.. رضيعاً يا الله.. رضيعاً يا أيها الناس..... رضيعاً وحسب!
لبنى مجيد حسين
واحة المرأة
يعنى بثقافة وإعلام المرأة والطفل وفق طرح عصري