دفعها الحارسُ بقوّةٍ إلى داخل الزنزانة… سعلَتْ بشدة وكادت تختنق من سوء الرائحة التي اعتدنا عليها ولم نعد نشمها إلا مع وصول زائرةٍ جديدة تذكّرنا بعفونتنا.
ولكن تلك الزائرة… لم تكن عادية... لا شكلها ولا رسمها ولا نظراتها توحي بذلك.
وقفنا ثلاثتُنا مع دخولها وصرنا ننظر إليها بدهشة.. كانت تتمتمُ بكلمات… ونحن نتأمل في وجهها…
- سلام الله عليكنّ… قالت عندما هدأت واستعادت أنفاسها…
رددتُ التحية نيابةً عن صاحبتي السجن… فأنا أكبرهن سناً وأعاملهما كابنتيّ…
- اجلسي هنا.. قلت لها وأنا أنفضُ الوسادة المهترئة..
ابتسمت… ابتسمت وكأنها ليست في أحد سجون صدام.. كأنها لا تعرفُ البعثيين, ولكنها كانت تعرفهم.. وهم يعرفونها…
كانت تبتسمُ كأنها مطمئنةٌ إلى مصيرها المجهول.. ولكن ما مصير سجينةٍ مثلها غير الموت؟! كنت أسأل في سري.
كانت أكثر ليلةٍ أنيسة ربما في تاريخ السجن والسجينات.
شعرنا برحمة الله.. أو بروح يوسف يحدّث صاحبي سجنه عن رؤياهما، أو بسجدة إمامنا الكاظم (عليه السلام) يواسي شيعته المظلومين في غياهب السجن…
هكذا كانت ابتسامتها.. وحديثها.. ثم مناجاتها ودعائها ونحن نغفوا على رخيم صوتها وننام مطمئنين.
استيقظنا على صوتها الحنون… فرغت من صلاتها.. طلبتْ قلماً وأوراقاً… لم يكن معنا... تمنيت لو كانت تطلب السّجائر لكي أنفذ رغبتها…
ناديتُ على الحارس.. ورجوته أن يحضر لي قلماً وأوراقاً.
فعل بعد تردّد…
عكفتْ على الكتابة… يخرجونها في أوقات الصلاة وكأنهم ينتقمون من ربها.. وترجع بعد ساعتين وعليها أفظع آثار التعذيب فتصلّي ركعتي شكر ثم تكمل عملها…
ظننتها ستكتب رسائل لأهلها.. أو لأخيها الذي اعتُقلت معه… ولكن غزارة ما تكتبه لا يعقل أن يكون رسائل..
- هل هذه كلها رسائل ؟! سألتها وأنا أعتذر من مقاطعتها.
- نعم يمكنك اعتبارها كذلك...
- ولكنها كثيرة! لمن كل هذه؟!
- لكلّ البشر.. لكل النساء .. لكل من تحب أن تقرأ أو تعي..
أنهت كتابها بعد خمسة أيام…
دخل الحرّاس وانتزعوا الكتاب بالقوة…
جلسوا في الليل في باحة السجن.. أشعلوا ناراً ليتدفؤوا.. وكان الكتاب هو حطبتهم الأولى..
في الصّباح السادس.. أخرجوها من السجن.
ثم بعد ساعة جمعونا نحن السجناء والسجينات في الساحة الكبيرة…
كانت هناك… تقف مقيّدةً على خشبةٍ .. تتلو الآيات…
ثم تقول :
- لي اسوةٌ بعمتي زينب.. اللهمّ تقبّل منا هذا القربان ..
كنا ننظر إليها بصمت وخوف وذهول… الحبلُ يلفُّ عنقها.. كانت تنظر إلى السماء وتبسم بشوق..
تذكرت حديثها في الليلة الأولى عندما ابتسمت وقالت إن السجن سيفرّغها للعبادة والتفكر أكثر… نحن لا نرى البلاء إلا رحمة الله وجماله في عين جلاله…
في الليلة الثانية عندما بدأ التعذيب… أأرجعوها وآثار الدم والحروق على جسدها الضعيف الناعم.
كنا نمسح الدماء عن وجهها… وهي تردد.. هوّن ما نزل بي أنّه بعين الله.
وفي الليلة الثالثة… زاد التعذيب والنزيف..
فسألتها أن تأكل حصتي من الطعام لكي تعوّض ما خسرته من دماء.. تبسمت.. وقالت:
- بعض الدماء لا تذهب هدراً.. فكما مشيئة الله قضت أن يطهر الأرض بماء السماء، فكذلك قضت أن يطهرها من الطغاة بدماء الأتقياء…
وفي الليلة الرابعة… أغمي عليها… ظننا أنها ماتت.. وعندما عالجناها وغسلنا وجهها.. استيقظت..
قلت لها وأنا أبكي… إذا نزفت أكثر سوف تموتين..
ابتسمت وقالت :
- نحن أبناء من يأنسُ بالموت كما الطفل بثدي أمّه…
أيقظني من شرودي صرخة الجلاد… وهو يدفع المنصّة الخشبية برجله..
هااا… شهقتُ وأنا أضع يديّ على عنقي… كأنني أنا التي أُشنق..
كانت معلقةً في الهواء ...
وتردد صوتها في أذنيّ:
نحن آنسُ بالموت…
دماء الأتقياء…
لا بد للشعب أن يستيقظ من سباته.
مرّت دقائق بدت لنا كسنوات.
توقف قلبُها وأُغمضت عيناها… أرخوا الحبل فسقطت على الأرض…
كانت غيمةٌ وحيدة في السماء كأنها تشهد على جريمة يزيدية جديدة…
هبت نسمة هواء حرّكت سعف نخلة بعيدة شعرتُ أنها قادمة من كربلاء لتسلم على شهيدةٍ التحقت بالركب لكي تبلغ الفتح.
نعقَ غرابٌ واقفٌ على حصن السجن… ثم ابتعد غير مبالٍ.
كانوا يعيدون السّجناء إلى الزنازين… وأنا واقفة أنظر إلى السجانين يسحبونها على الأرض..
في اليوم التالي حضرت سيارة الإسعاف… لا عائلة لديها ليسلموهم الجثة.. لا عائلة خارج السجن على الأقل.. علمت أنهم سيدفنونها في مقبرة الصحراء القريبة من السجن.
رجوت الحارس أن يسمح لي بأن أودعها للمرة الأخيرة
لا أعرف كيف ولماذا.. ولكنه وافق..
اقتربتُ من القبر الذي أودِعت فيه..
شعرت بحرارة دموعي أقوى من الشمس التي تلفح وجهي وأنا أسلم عليها وأودّعها..
نظرت يميناً وشمالاً.. كان الحراس ينظرون إليّ من بعيد.. والحفّار قريب ينتظر أن أنهي مراسم صلاتي ووداعي.. فجأةً صرختُ ورميت نفسي داخل القبر.. أخرجت شيئاً من تحت عباءتي ووضعته بسرعة تحت جسدها الشريف.. داخل الكفن الأبيض.. وحضنتها بقوة..
أسرع الحراس وهم يصرخون.. نزل أحدهم في القبر وصار يسحبني بالقوة وأنا أصرخ : أدفنوني معها... أدفنوني معها ...
أخرجوني بالقوة .. بدأ الحفار يهيل التراب على جسدها.. والحارس يجرّني مجدداً نحو السجن..
هكذا دفنت الشهيدة في مثواها الأخير..
ربما لا أخرج من السجن.. وربما أموت هنا...
ولكني سعيتُ لأن يخرج شيء من روحها.. لذلك كنتُ أنتظرها حتى تنام ثم أبدأ عملي ...
ربما يجد أحدُهم يوماً ما كتابها الذي نسخته بخطّي فيخرجه من مدفنه.. وربما قبل ذلك أو بعده.. ننهض ونثور.. عندما نسمع صدى صوتها نحن الأحياء الأموات وهي تقول لنا كما عنونتْ كتابَها :
"قوموا من مدافنكم"
القصة الحائزة على المركز الرابع في مسابقة القصة القصيرة ضمن فعاليات مهرجان ربيع الشهادة العالمي الخامس عشر
فاطمة رياض زعيتر
واحة المرأة
يعنى بثقافة وإعلام المرأة والطفل وفق طرح عصري