بين السماء والأرض أقف اليوم،.. أتطلّع إلى هذه الدنيا المتهافتة رميماً تحت الأقدام، وقد توّج الجاهلون بوحولها الهام، ونسَوا أنهم لن يلبثوا أن يتركوها خلفهم دون سلامٍ في قابل الأيام.
أقف اليوم على تلةٍ من غبار الكون، أرصد في المدى وقع خطوات التاريخ العريق، وأسجّل أحداثه بخفقات فؤادي التي أخمدتها أيدي جلاوزته منذ زمنٍ سحيق، ولكن الباري شاء لها أن تنطق، فأوفدني إليكن يا نساء هذا الزمن الذكي الأخرق، وجرت على لساني أنسام الحق الحقيق، بعدما اتّخذْتُها لي صراطاً مستقيماً دون كل طريق.
أقف اليوم لأشهد، وكفى بالله شهيدا، أني رأيت الحق حقاً فاتّبعتُه، والباطل باطلاً فاجتنبتُه، ومضيتُ على بصيرةٍ من أمري مقتديةً بالصالحين والصالحات، واستضأت بقول سيدة نساء العالمين وهي عندي النبراس والمشكاة:
"إن كنتَ تعمل بما أمرناك وتنتهي عمّا زجرناك عنه، فأنت من شيعتنا، وإلا فلا!"(1)
وأنا إذ أخرج من صومعتي إليكم اليوم، بل من فردوسي الموجود وجنتي الموعودة، ما كنت لأترك ما أنا فيه من نعمةٍ غير محدودة، إلا لأمرٍ ذي خطر، فأعيروني السمع والفكر، وانظرونِ لعلكم ترشدون..
كلا، بل انظرنني يا بنات الخدر، فأنتن وجهة هذا السير، ولأجلكنّ سعيت حتى قَدِمتُ من عصري إلى هذا العصر.
"قمرٌ" أنا..
كلا، لست قمراً من كواكب السماء التي تدور مع أفلاك الجوزاء، ولا قمراً في الجمال البارع الذي يتكنّى به البشر تيمّناً بحسنِ الضياء، ولكني "قمر بنت عبد" من بني النمر بن قاسط؛ .. امرأة من العرب، وما أكثر النساء.. وكان يمكن أن ينطوي ذكري كما غيري، لولا أنني اخترتُ أن أكون من عصبة الأوفياء، وأن أخطّ على وجنة التاريخ تلك الدمعة البيضاء، فوُفّقت لخير مصير، وضمنت في عالم الآخرة ذاك المقرّ الأثير، أما كيف فعلت، فذاك محور رحلتي، فأعرنني قلوبكن لأبثّ فيها عبير مهجتي.
.. ليس يعنيكنّ أمر صباي وطفولتي، ولا يعنيني، فبعض الناس يولدون حينما يبدأ عمر العطاء، وأنا ولدتُ حينما اقترنت حياتي بحياة ذلك البطل الكميّ، "عبد الله بن عميرٍ الكلبيّ"..
كانت قصةً في عمر الزمان قصيرة، فلست أول امرأةٍ ولن أكون الأخيرة، ممن ربطن قلوبهنّ برباط الحرية الأسيرة، بل الأسر الحر، ذاك الوشاح الذهبي الذي يعانق العمر، فيحتويه بعمرٍ آخر، لتنبثق عنهما أعمارٌ كُثر، فإما يكونون فتنةً أو هداية، بحسب ما ينال الجميع من شرف المعرفة بالحق والولاية..
كذا كان زواجي من ذلك البطل، فقد أحببته وأحبّني حبّ الحياة للأمل، لا لأنه كان الأغنى في الرجال والأكمل، ولا لأنني كنت الأبهى في النساء والأجمل، بل لأننا عرفنا حقاً مصدر حبنا الأول، وتشبّثنا به تشبّث النور بالأزل، فإذا محمدٌ وآله يشرقون في سمائنا مع كل قولٍ وعمل، فهم لنا ولأولادنا من بعدنا القدوة والمثل.
أظنني لم أقل لكن جديداً، فبعضكن أو كلّكن تحسبن أنكن لا تحتجن مزيدا، ولكنني مع كل ما بلغته وبلغني، أرى أن الهدف دائماً يبقى بعيدا، وأن الحكمة من بُعده أن نسعى ونسعى، حتى نبلغ مجمع البحرين، ذينك النورين الأزهرين اللّذين انبثقت عنهما الأنوار،عنيتُ فاطمة البتول وعلياً الكرار، فنجد العبد الصالح الذي ينتظر الفرج، وننتظره في كلّ يومٍ وعداً ووعيدا..
ويحضرني الساعة قول مولاي أمير المؤمنين عليه السلام:
"رأس الدين مخالفة الهوى!"
فطاب حديث الطيبين من كلام، إذ ما عرف الهدى إلا من تزكّى، و{خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى}‘ ثم استقام..
وتقفز بي السنون إلى مشهدٍ لا أنساه، وكيف أنساه وقد كان فيه كلّ ما لقيتُ من خيرٍ ولا زلت ألقاه؟!..
كان مسكننا يومئذٍ بهمدان من جوار الكوفة، وكانت الحياة في ذلك الحين تسير بنا أوعر سير، فالقابض على دينه كالقابض على الجمر، لا سلاح له إلا الصبر وانتظار الأمر، وأهل بيت نبيّنا مغصوبٌ حقُّهم، وكل محبٍّ لهم يجازى على حبهم، ويُنكّل بكل من اختار قربهم، والدين غدا لعقاً على الألسنة يحوطه الناس ما درّت معايشهم، حتى كادت الشريعة أن تبور، و"خليفة الله" المزعوم معلنٌ بالفسق والفجور..
كانت القلوب قد بلغت الحناجر، فإما ننفث النار التي في الصدور، وإما نختنق بها ونلقى المحذور..
وعاد أبو وهب عبد الله، بعلي وأبو أولادي، عاد في ذلك اليوم من النخيلة بظاهر الكوفة، بادي الحنق والغضب، تفشي غيظه أنفاسه الملهوفة، وقبل أن أسأله عما هناك، بادرني بقوله:
- يا أم وهب، ما تقولين في حياةٍ كهذه، أولها تعبٌ ونصب، وآخرها قبرٌ مرتقب؟!
كنت أعرف فيه ذكر الموت ونهاية الأجل، فقلبه حيٌّ لا يسهو ولا يغفل، ولكن ما أثار عجبي كانت نبرته الحانقة، فسألته:
- ما دهاك يا أبا وهب؟! .. وهل في الحياة إلا العمل، وقد وُعد المتقون بجزائهم، {يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون، إلا من أتى الله بقلبٍ سليم}؟!
تطلّق وجهه بعد عبوس، فسرني أن أكون له سبب سرورٍ، واستمعتُ إلى صوتٍ كأنه تسابيح النسور:
- هو ذاك يا أم وهب، وإن الجنة لبالمرصاد، وها قد لاحت قطوفها في أفق الجهاد..
تزايد عجبي واختلط بأسفي وأن
أقول:
- ذكرتَ الجهاد يا أبا وهب، فأقرحت القلب وأدمعت العين،.. أولم يقل مولانا الحسن بن علي عليه السلام في معاوية الملعون: "والله ما سلّمت الأمر إليه إلا أني لم أجد أنصارا، ولو وجدتُ أنصاراً لقاتلته ليلي ونهاري حتى يحكم الله بيني وبينه"؟.. فأي حدثٍ قد ذكّرك بالجهاد الساعة، والوضع يزداد عما كان عليه سوءاً وشناعة؟!
انشرحت أساريره فجأةً فلم أفهم، حتى لكأنه لم يفقه حديثي ولم يهتمّ، وهتف:
- أتعلمين ماذا رأيت اليوم في النخيلة يا أم وهب، وهي مُحتَشَد المحاربين منذ يوم أمير المؤمنين؟!
- لعل أهل الكوفة قد ندموا على غيّهم بالتخاذل عن ابن عقيل، وهبّوا يحتشدون لمحاربة ابن زيادٍ ويزيد؟!
- بل هم يحتشدون لمحاربة الحسين، وحبيبي الحسين عليه السلام قد قال بالأمس في المدينة مقولته الشريفة: " لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفرّ منكم فرار العبيد، هيهات منا الذلة.."!
كان لكلامه وقع الصاعقة على قلبي، فغصّت نبرتي وهي تمتزج بدمعتي إذ قلت:
- أويقاتلونه؟!..إنهم والله لا يتورّعون عن ذلك، فما أقسى هذه القلوب؛ ولقد قاتلوا من قبله أباه إمام المتّقين، ثم خذلوا أخاه السبط الأمين، وها هم قد أرادوا أن ينقلبوا عليه اليوم ناكثين وقاسطين ومارقين! ألا بؤساً لهم وترحاً!
ثم انكفأت نحوه أسأله بعجبٍ وحزمٍ لا يلين:
- ولكن، علام انشراحك إذاً يا أبا وهب؟ وهل في الأمر ما يسرّ الناظرين؟! بل ماذا نحن فاعلين حيال هذا البلاء؟! ..أنقعد عن نصرة آل النبي وما كنا من قبلُ جبناء ولا منهزمين، ولا ناقصي يقين؟!..
-" لقد عزمتُ على الخروج إلى الحسين"!
كان ذاك جوابه.
وكانت تلك هي الصاعقة المنتظرة، بل البرق المهلّل لاستقبال الغيث المقبل..
ولم يمهلني لأرتويَ من الفكرة قبل أن يقول:
- "والله لقد كنت على جهاد أهل الشرك حريصاً يا أم وهب، وإني لأرجو ألّا يكون جهاد هؤلاء الذين يغزون ابن بنت نبيهم أيسر ثواباً عند الله من ثوابه إيّاي في جهاد المشركين، فما تقولين؟!".
تهلّل فؤادي، وشعرت بأنني ما أحببتُ عبد الله حقاً كما أحببته في تلك اللحظة، وتساوى أمامي الموت والحياة، بل إنني رأيت الموت أجمل، فأي حياةٍ حييناها في الذلّ والفناء المدقع، تجعلنا نسعى لنبقى فيها فلا نطمع بالخلود والبقاء؟!.. ولقد علمتُ أن "الله خلّد أهل النار فيها لنيّتهم أنهم لو خلدوا في الدنيا لعصَوا الله أبدا، وخلّد أهل الجنة فيها لنيّتهم أنهم لو خلدوا في الدنيا لأطاعوا الله أبدا"*،ولعمري فلقد طمعتُ بطاعة الله وأولي الأمر ما حييت، ولذا فقد وجدتُني أنطق بما في قلبي بحماسٍ لا يقل عن حماس زوجي:
- وماذا يمكن أن أقول؟!.. لقد "أصبت" أيها الحبيب، "أصاب الله أرشد أمورك، افعل وأخرجني معك!"
لعل عبد الله فوجئ بقولي، أو لعله لم يفاجأ، فقد كان ديدننا معاً أن نتساوى قولاً وعملاً ونية، فلا يدخل أحدنا في خيرٍ إلا أدخل الآخر معه، ولا يخرج من سوءٍ إلا وأخرج الآخر معه، وأحسب أن نظرتي إليه بعدما قلت قولي جعلَتْه لا يعترض عليه، بل يهز برأسه موافقاً ويوحي إليّ بتجهيز نفسي للرحيل، ولكن نظرته نحوي كانت تقول شيئا، لعله كان يسألني عن مصيري بعد استشهاده، وهو ما علمتُ وعلم أنه أمرٌ واقع ليس له دافع، فأنصار الحسين قلة، ولا طمع في النصر على أهل تلك الملة، إلا أن يكون ذلك بإعجازٍ من الله، وهو ما لا نطمع فيه إلا أن يكون قد طلبه وليّ الله.. لم تكن السلامة في الدنيا هاجسنا، بل سلامة الدين، وإطاعة أمر وليّنا إحياءً لهذا الدين، ولذا فقد رددت عليه، وإن لم أنبس ببنت شفة:
- لا عليك يا عبد الله، ولي في نساء السبط أسوة، ولعلني أكون لهم عوناً في هذه البلوى!
وانطوت البيداء تحت أقدامنا خطوةً خطوة، ووصلنا إلى كربلاء.. وهناك، نالنا شرف الحظوة.
مهما وصفتُ لكنّ يا أخواتي سحر اللقاء، فإني لن أجد الكلمة التي تفيه حقّ الثناء..
لقد رأيته، رأيت سبط النبي مكلّلا بذلك الوهج العُلويّ، ورأيت أصحابه من حوله كالنجوم تحيط بالكوكب الدريّ، وغبطت زوجي على هذه المنة، أن يكون نجماً في سماء تلك الجنة..
أما لقائي بسيدة الهاشميات، بنت سيدة النساء والبنات، فذاك حديثٌ آخر، ولعمري فلقد ظننتني دخلت الفردوس قبل أواني، رغم ما كان عليه الأمر من ضيق وشدةٍ ما فتئنا منها نعاني.. ونعمتُ بقربها وخدمتها العليا، وكانت تلك أحلى أيامٍ لي في هذه الدنيا.
ولم تمض إلا ليلتان، حتى حلّ العاشر من المحرم، يوم الوعد الأعظم..
يومئذٍ كان السيل قد بلغ الزبى، سيلٌ لا ماء فيه، بل أتونٌ من الحرّ والظمأ لفّنا، فزادنا عسراً على عسرنا، ولكن أي عسرٍ أتحدّث عنه، واليسر المرتقب كان قاب قوسين أو أدنى؟!..
وبدأ القتال وحمي الوطيس، وانتهك القوم حرمة النبيّ، وراحوا يعيثون فساداً في الأرض بإبادة الصفوة المصطفاة من بنيه، تارةً بالقول السفيه، وطوراً بالسيف والرمح والغدر، وعلمنا أن الشهادة هي المصير المرصود لهؤلاء الأشاوس، فوقفت إلى جانب سيدتي على التل أراقب كل راجلٍ وفارس، وعيناي تبحثان عن أبي وهب، لأرى متى يكون له النصر المنتجب؟!
لم أتأخر في البحث طويلا، فحبيبي لم يكن ليتأخر عن ركب الجهاد، بل هو سارع يطلب الإذن في أول المعركة، إذ برز لعينان من جيش ابن سعدٍ يطلبان المبارزة، وسمعته يسأل الحسين روحي فداه بنبرةٍ متشوّقة:
- "أبا عبد الله رحمك الله، ائذن لي في الخروج إليهما"
فقال الحسين عليه السلام وهو ينظر إلى متانة بنيانه وعظيم إيمانه:
- "إني أحسبه للأقران قتّالا، اخرج إن شئت!"
فخرج إليهما مرتجزا:
" إن تنكروني فأنا ابن الكلبي حسبي بيتي في عليمٍ حسبي
إني امرؤٌ ذو مرّةٍ وعصبِ ولست بالخوّار عند النكبِ
إني زعيمٌ لك أم وهبِ بالطعن فيهم مقدماً والضربِ
ضرب غلامٍ مؤمنٍ بالربِّ"
فقتل أحدهما، وغدره الآخر فضربه، فاتّقاها بيسراه فتقطّعت أصابعه، ولكنه انكفأ نحوه فأجهز عليه، وأنا مع كل هذا أنظر، وإني لأذكر أيّ ألمٍ أحسسته ساعة رأيت أصابعه، وهي مواضع سجوده الطويل، تتقطّع وتطير فتسبقه إلى عليين، لتشكو ظلامته وظلامة آل الرسول إلى العزيز الجليل، وأي فخرٍ تملّكني ساعة سمعته في شعره يخاطبني، ورأيت الرضى يرتسم على وجه الإمام لانتصار عبد الله على خصمَيه، حتى إنني لم أتمالك نفسي أن خرجت إلى ساحة المعركة، وأقبلتُ نحو عبد الله وقد تداخل في كياني الفخر بما فعله مع الغضب على ما حلّ به، وعلى ما سيحلّ بالحسين وأهله، فأخذتُ عمود خيمةٍ وتصدّيت للأعداء قائلة:
- "فداك أبي وأمي يا أبا وهب، قاتل دون الطيبين ذرية محمد".
فالتفتَ إليّ عبد الله، رأيت في عينيه كل ما عرفته فيه من حنانٍ وحبٍّ وبطولة، ودنا مني يجرّني نحو النساء بيده الدامية العليلة، بعدما كانت يده اليمنى بالسيف مشغولة، فتعلّقت بثوبه كطفلة، وقبّلت يده الموسومة بوسام رفض الذلّة، ونشجت نشيجاً عالياً إذ لم أجد ما يمكن أن أقوله سوى قولي متوسّلة:
- بالله عليك يا أبا وهب.."إني لن أدعَك دون أن أموت معك!"
وتدخّل مولاي أبو عبد الله، وهو أبٌ وسيدٌ لكل "عبد الله"، فناداني جعلتُ فداه:
- "جُزيتم من أهل بيتٍ خيرا، ارجعي رحمك الله إلى النساء فاجلسي معهن، فإنه ليس على النساء قتال".
لم يكن من إطاعة أمر مولاي بد، فتقهقرت إلى الوراء وقلبي مشدودٌ إلى الأمام، و كبحت من عزمي الزمام، وتهافتُّ على أرض تلك الخيام، وقد علمتُ أن ذاك اللقاء كان هو الأخير، وأن أبا وهبٍ سينال الشهادة دوني، وسأبقى في هذه الدنيا الفانية وحدي أصارع سنيني، ريثما ألتحق به حينما يحين حيني..
ولكني لم أستطع أن أمنع نفسي من العودة ببصري إلى ساحة الجهاد، فلعل النظر يعوّضني عن ذاك البعاد، ولم ألبث أن اشتعل قلبي بوهجٍ وقّاد، إذ رأيت القوم يحتوشون أبا وهب، فيغوص فيهم كما النار في اللهب، فيفريهم ويبيد منهم حتى ذراريهم، ولكنه بعدما ينال منه الظمأ والتعب، يقع فريسةً لذئبٍ من ذئابهم، بل لجمعٍ من تلك الغربان، فهم لم يكونوا على جبنهم قادرين على أن ينالوا من أبطالنا فرادى متى التحم الجمعان.
ونسيت نفسي.. وعدوت نحو الميدان بقلبٍ ولهان، وارتميت في معترك الفرسان، وانكببتُ على حبيبي أشمّه وأضمّه، فإذا هو قد فارق الحياة، فاحتضنتُ رأسه الأشمّ بين يديّ، ورحت أمسح الدم والتراب عنه وأغسله بفيض عينيّ، وأردّد:
- "هنيئاً لك الجنة يا عبد الله، .. أسأل الله الذي رزقك الجنة أن يصحبني معك!"
وأحسب أن الله استجاب لدعائي، كما استجاب من قبل لرجائي، حينما رافقت زوجي إلى كربلائي، فإني لم ألبث إلا هنيهة، وإذا بي أتلقّى ضربةً على رأسي..
لم أدرِ بعد ذلك ماذا جرى، ولكني أدري بأن الألم الذي بلغ بي المنتهى، كان أقلّ بكثيرٍ من النور الذي اجتاح كياني بعدها، وأنني نظرت أمامي، وحولي وخلفي، بل نظرت تحتي، وإذا بي ألقاني جثةً هامدةً في مكاني، قد اختلطت دمائي بدمائه، وإذا أنا روحٌ شفّافةٌ تتسامى إلى عليائه، وإذا هو يتراءى لي في سمائه، قريباً قريباً يحاذيني، ويفيض عليّ من عطر الجنة فيحتويني، ونحلّق معاً نحو ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، فيفيض علينا الحسين بعطائه، وما أحيلى العطاء الذي غدا كمالاً بين يديه، لا حدود لانتهائه.
إيه يا بنات الخدر ونساء هذا العصر، لقد رويت لكن حكايتي، وأردت من روايتها أن تفهمن غايتي، وأن تعلمن أن لنا نحن معاشر النساء منازل في الجنة لا ننالها إلا بالشهادة!.. بلى، ولا عجب، فإن "من أحب عمل قومٍ حُشر معهم"، فكيف بمن رافقت خير الأصحاب والشهداء، أصحاب الحسين عليه السلام في كربلاء؟!
.. كيف بمن حذت حذوهم وكانت في صفهم؟! .. كيف بمن دفعتهم وساندتهم ورمت بسهمهم؟!.. كيف بمن كانت لهم عضدا في نصرتهم ويداً في بيعتهم وقلباً في محبتهم لسبط نبيّهم؟! . ثم كيف بمن وقفت لتدفع عنهم الضيم ولواستطاعت بأكثر من نفسها لفعلت؟! .. بل كيف بمن سقطت في النهاية بين أشلائهم، وتمازج دمها مع دمائهم؟!
وكيف بكنّ أنتنّ إن حذوتنّ حذونا وحذوهم، ومضيتنّ على دربنا ودربهم، درب الحسين؟!
إنني ما استطعت يوماً أن أفِيَ مولاي الحسين حقّ شكره، ولن أستطيع، حتى وإن كنت أول شهيدة اغتسلَتْ من بحره، ولكني تساءلت ولا زلت أتساءل مذ ارتقيت إلى
جنتي:
ترى، هل كان صدق نيتي بطلب الشهادة هو ما جعلني أحوز تلك السعادة، أم أنه دعاء الحسين لي ولزوجي بأن "يجزينا الله من أهلِ بيتٍ خيرا"؟!
وأي جزاءٍ خيرٌ من هذا الجزاء، أن أغدو على مدى الأزمان والدهور، قمراً للنساء، .. قمراً من أقمار كربلاء!
* إن القصة التي بين أيدينا مستوحاةٌ من قصة السيدة قمر بنت عبد (أم وهب) زوجة عبد الله بن عميرٍ الكلبي (رض) وهي غير (أم وهب بن حباب الكلبي النصراني(رض) و"قمر" (أو قمرى في بعض المصادر) هي أول شهيدة بين يدي الحسين عليه السلام في كربلاء، وقد اعتمدنا طريقة الاقتباس في عرض الموضوع ونقله من مصادره، ولكن الحوار الأدبي بين قمر وعبد الله ليس حرفياً بل هو بلسان الحال، وما تمّ نقله منه بحرفيته من المراجع قد وُضع بين مزدوجين توخياً للدقة، بينما تمّ نقل حديث الإمام الحسين عليه السلام بحرفيّته كما هو مفروض، وقد لزمت الإشارة لذلك
* مقتبس عن قولٍ للإمام الصادق عليه السلام بهذا المعنى.
المصادر والمراجع:
"منتهى الآمال في أخبار النبي والآل" للمحقق الشيخ عباس القمي(قده)
"معالي السبطين" للشيخ محمد مهدي المازندراني الحائري(قده)
القصة الحائزة على المركز الثاني في مسابقة القصة القصيرة ضمن فعاليات مهرجان ربيع الشهادة العالمي الخامس عشر
رجاء محمد بيطار/ لبنان
واحة المرأة
يعنى بثقافة وإعلام المرأة والطفل وفق طرح عصري