الحلقة السادسة

بقيت السيدة حكيمة تنتظر ما أوعدها ابن أخيها الإمام العسكري من ولادة حجة الله في أرضه وها هو موعد الفجر قد قرب, وعند الفجر خرجت السيدة حكيمة إلى صحن الدار وهي تترقب البشرى، ونرجس لا تزال نائمة، ولما سمعت كلام الإمام وهو يبشّرها بقرب الموعد اطمأنت روحها واستيقنت بالولادة وجلست فقرأت: (ألم السجدة) ثم قرأت (يس) وما إن انتهت من قراءتها حتى سمعت صوت نرجس وهي مفزوعة وتتأوه، فأسرعت إليها وهي تمسّد رأسها وتطمئنها فقالت لها: تحسّين شيئاً ؟ فقالت: نعم يا عمّة. فقالت لها: تمالكي نفسك وقوّي قلبك، فهو ما قلت لك.

وتولّت حكيمة شؤون الولادة وبعد لحظات أحسّت بحركة المولود فكشفت الستار عن النور... رأت سليل النبوة ووريث الإمامة.. رأت خليفة الله في أرضه فتنفست الصعداء.. وأخيراً تحقق الوعد الإلهي.. رأته ساجداً يتلقى الأرض بيديه، فحملته وعانقته وقبلته.. لم يكن كأي مولود فقد كان نظيفاً طاهراً مطهّراً تفوح منه رائحة الجنة, وما إن رآه الإمام العسكري حتى صاح: هلمّي إليّ بابني يا عمّة.. فجاءته به, فقال له: تكلّم يا بُني بإذن الله. فقال المولود المبارك (عليه السلام): أشهد أن لا إله إلاّ الله وأشهد أنّ محمّداً (صلى الله عليه وآله وسلم) عبده ورسوله، ثم صلّى على أمير المؤمنين (عليه السلام) وعلى الأئمّة (عليهم السلام) إلى أن وقف على أبيه ثم أحجم. عند ذلك قال الإمام لعمته: يا عمّة، اذهبي به إلى اُمّه ليسلّم عليها وحتّى (تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ثم ائتني به.

فذهبت به حكيمة ليسلم على أمه ثم أرجعته إلى أبيه, وفي الصباح لما أرادت السيدة حكيمة الانصراف جاءت لتسلم على ابن أخيها وترى المولود فلما كشفت الستر لم تره ! فاستغربت وسألت الإمام عنه فقال لها (عليه السلام): يا عمّة، استودعناه عند الذي استودعته اُمّ موسى (عليه السلام). وفي هذا القول من الإمام (عليه السلام) إشارة إلى تشديد السلطة من مراقبتها لبيت الإمام وعلمها بأن مولوداً سيولد له وقد عزمت على قتل أي مولود لقطع نسل أهل البيت واستئصالهم, ولكن إرادة الله كانت أعظم من عزم السلطة, فجعل الله زمان ولادته في هذا الوقت وهو السحر حيث تكون العيون تغط في نوم عميق ولم يعرف بأمر الولادة سوى هؤلاء الثلاثة وهم: الإمام, وحكيمة, ونرجس, وقيل شهدتها أيضا امرأة قابلة عجوز من الثقات وقد أوصاها الإمام بالكتمان فعملت بوصية الإمام, ولما أرادت حكيمة الانصراف قال لها الإمام: يا عمّة، زورينا بعد سبعة أيام.

في اليوم السابع جاءت حكيمة وسلّمت وجلست فقال لها الإمام (عليه السلام): هلمّي إليّ ابني، فجاءت به فتكلم كما تكلم في الليلة الأولى ثم تلا هذه الآية:

بسم الله الرحمن الرحيم (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ ( وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ).

وظللت الدار أجنحة طيور خضر حتى غمرت المكان ورأت ابن أخيها الإمام يدعو أحدها ويقول له: (خذه واحفظه حتّى يأذن الله فيه، فإنّ الله بالغ أمره). فقالت حكيمة للإمام: ما هذا الطائر، وما هذه الطيور ؟ فقال (عليه السلام): (هذا جبرئيل، وهذه ملائكة الرحمة).

وتأتي حكيمة بعد أيام لتتفقد المولود فلا تجده فقال لها الإمام العسكري: هو يا عمّة في كنف الله وحرزه وستره وغيبه حتى يأذن الله له، فإذا غيّب الله شخصي وتوفّاني ورأيت شيعتي قد اختلفوا فأخبري الثقات منهم وليكن عندك وعندهم مكتوماً، فإنّ ولي الله يغيّبه الله عن خلقه، ويحجبه عن عباده فلا يراه أحد حتى يقدم لـه جبرائيل (عليه السلام) فرسه (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً).

محمد طاهر الصفار