منذ بدء الخليقة وانطلاق الإنسان في هذه الأرض ومعرفته بأهداف وجوده في الحياة ارتبط ارتباطا وثيقا بالأم؛ والتي مثلت له رمز العطاء والنماء, وقد حظيت الأم بمكانة سامية في الأديان واحيطت باهتمام واضح لبيان مكانتها وتوجيه الأبناء لتقدير دورها وقيمتها قبالة ما تقدمه لهم وهم أجنة في رحم صبرها, وحبها المطلق, حتى لحظة انقطاعها عن الحياة, بالمقابل بذر الله في قلبها من الحب والإيثار ما يكفي ليغنيها عن التوصية والتوجيه لتأدية فطرتها.

 

نص حق الأم وفق ما جاء في رسالة الحقوق للإمام السجاد (عليه السلام) :

(فحق أمك أن تعلم أنها حملتك، حيث لا يحمل أحد أحداً، وأطعمتك من ثمرة قلبها ما لا يطعم أحد أحداً، وأنها وقتك بسمعها وبصرها، ويدها ورجلها وشعرها وبشرها، وجميع جوارحها، مستبشرة فرحة محتملة لما فيه مكروهها، وألمها، وثقلها وغمها, حتى دفعتها عنك يد القدرة وأخرجتك إلى الأرض فرضيَّت أن تشبع وتجوع هي، وتكسوك وتعرى، وترويك وتظمئ, وتظلك وتضحى, وتنعمك ببؤسها، وتلذذك بالنوم بأرقِها، وكان بطنها لك وعاء، وحجرها لك حواء, وثديها لك سقاء, ونفسها لك وقاء, تباشر حر الدنيا وبردها لك ودونك، فتشكرها على قدر ذلك، ولا قدر عليه إلا بعون الله وتوفيقه).

لوحة الأمومة

تضمنت رسالة الحقوق للإمام السجاد (عليه السلام) مذكرة وافية وشاملة لحقوق الأم برسم ملامح الإعجاز الإلهي لخلق الإنسان ومكوثه في الرحم لتسعة أشهر ونموه عن طريق تزوده بغذاء أمه, وتداعيات هذه الفترة على الصحة النفسية والجسدية لها, ومخاضها العسير مع الألم لتدرك اعظم هبة ربانية, وهي حصولها على صفة أم وحملها لهذا اللقب بين كفتي عمرها مناصفة بين إحساسها بمنتهى السعادة, وشعورها بأشد حالات التألم والوهن, وما يلي هذه الفترة من إطعام وإرواء وليدها من خلاصة عافيتها, فضلا عن مجمل المصاعب والمسؤوليات التي تواجهها حتى يبلغ ابناؤها أشدهم, بل طالما قلبها يخفق وعقلها يدرك.

رؤية معاصرة

تشتكي معظم الأمهات في وقتنا المعاصر من صعوبة التعامل مع الأبناء, مع أن القرآن الكريم وضع قواعد ثابتة لشكل العلاقة بين الأم وأولادها من خلال آيات كثيرة تعزز الجانب الحسي للإنسان بمنزلة الأم فضلا عن القصص التي وردت كأمثلة لمواقف حية تتجلى فيها شريعة الأمومة, وكما ورد في السنة المحمدية فيما يخص هذا المعنى باحاديث كثيرة بعضها صارت مقترنة بذكر الأم, وما جاء في رسالة الحقوق هو حجة قاطعة بأن كل ما يقدمه الإنسان لأمه على اعتبار إمكانية ردها جزءا من حقها عليه يظل قاصرا ومقصرا بل وعاجزا عن إدراك سر قدرتها وإيثارها وصبرها البالغ على مساومة أي موقف صعب مع أبنائها بالحب والرفق.

ومن المؤسف إننا نحتاج كثيرا من الوعي والمراجعة لفلسفة الحقوق لا سيما في وقتنا الحالي؛ لتقوية جذور اهتمام الأبناء بالأم وتعضيد ساق سلوكهم وأفعالهم الذي يتيح للأم بمتابعة رفدهم المزيد من ثمار إحسانها وعطفها عليهم المتمثل بالتربية أولا بحكم أنه أهم حقوق الأبناء عليها.

حقائق مؤلمة

تختلف إحصائيات القصص المأساوية لجحود الأبناء من مجتمع لآخر بحسب مقدار الوعي والثقافة, والأهم بالقدرة على التفقه في تعاليم الدين الصريحة, ولا يخفي عن أحد ما أوجبه الله سبحانه وتعالى من قانون يعاقب فيه المذنبين بجريرة عقوق الوالدين, وبالرغم من كل ذلك تزدحم مسامعنا بروايات واقعية تخدش القلوب عن أبناء لم يدركوا نعمة بر الأم وابدلوها بالإساءة, وما يثبت إن الجنة تحت أقدام الأمهات هو مآل الجاحدين والمعرضين عن جنة الدنيا, وتخبطهم في مديات الغفلة, وعدم قدرتهم على استنباط العبرة من كم العطاء والحماية والرعاية المقدمة من أمهاتهم لهم.

" هل جزاء الإحسان إلا الإحسان" ؟ آية قرآنية مباركة تجبرنا على طرح سؤال على انفسنا في حال ضمنا الجواب لاعتماده منهجا للتعامل مع الأم, وقتها حتما سيكون الرد برها في الدنيا, ورضاها وشفاعتها في الاخرة.

إيمان الحجيمي