أيّ قنوتٍ يبسملُ اسمَكِ النابضَ في تراتيلِ السماء..؟

وأيَّة قصيدةٍ تحبسُ دموعَها عند نجواكِ..؟

أمْ.. أيِّ فجرٍ ينثرُ الندى لغيرِ وجهِك..؟

يا إيقونة الجلال, وأنفاس الوحي, وعبق النبوة, ونبع الطهارة, وشذى القداسة, وسنة الحزن, وحكمة الدموع, وظِلال النبوة...

القافلة محمّلة بالنورِ تدندنُ الحلمَ على رفيفِ الملائكة وهمسِ جبرائيل

ها قد جاء بالواحة.. استعدي يا خديجة فقد بدأت رحلة السماء

الوجوهُ المكفهرّة التي ألصِقتْ بالحجر تصمّ آذانَها لنداءِ الغار

الجبلُ يتفطرُ خشيةً من ثقل النداء..!

ولكن الجباهَ التي أدمنت التمرُّغَ على اللاتِ والعزّى تحجّرت قلوبُها..

خديجة .. صِلِي جناح ابن عمك..

إنه نداء القلب..

إنهم لا يرون ما ترين يا خديجة..!

ها هو قد وقف ووجَّه وجهَه في خشوع إلى من رآه ولمْ يرّه أحدٌ سواكِ وعلي ولكن... من مثلك ومثله..!!!

(والله ما أبدلني الله خيراً منها، لقد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله ولدها إذ حرمني أولاد النساء).

خديجة... تشرّفت بالإسلام وتشرّف بها, فمع الإسلام احتلت خديجة موقعها الحقيقي, وأدّت دورها العظيم وأبدلت تجارة الدنيا ومتاعاً يفنى إلى تجارة لن تبور فكانت تنتظر هذه التجارة وهذا الشريك الصادق الأمين الذي اختاره الله واصطفاه على عباده لحمل أمانة خاتمة الشرائع فهنيئاً لها به وهنيئاً له بها.

خديجة.. ما أرجح عقلك أيتها السيدة العظيمة؟ وما أشد يقينك, بل ما أطهر قلبك الذي تخلى عن ترف الدنيا ولم يخفق لبشر سوى لسيد البشر فبزغ اسمك في سماء المجد وأشرع في ضفاف الخلود مع سيدات العالمين أجمع, اللاتي اصطفاهنّ الله وطهرهنّ: (خير نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، وآسيا بنت مزاحم امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد).

خديجة.. تقلّبت في الساجدين فجميع أجدادها كانوا من الأحناف الذين رفضوا عبادة الأوثان وبحثوا عن الدين الحق لم يعبدوا صنماً قط, بل كانوا يعبدون الله وعلى ملة إبراهيم (عليه السلام) ومن المنتظرين ظهور النبي الخاتم وما أقدس ما ذخروا له..؟

خديجة.. لم تتزوج قبل النبي فلم تجد القرين الذي يهفو إليه قلبها وتشتاقه روحها حتى رأت محمداً

خديجة .. محمد .. لم يعرف التاريخ اسمان تعانقا في البشرية كهذين الاسمين.. فرافقت بواكير نزول القرآن، فتوضأت بنداه واستنشقت شذاه ورددت صداه : يا محمد، إن الله يُقرئك السلام..، ويقول إني باعثك نبياً ومرسلاً وهادياً ونذيراً

وكانت زمزم على موعد مع أول الأيادي التي لبّت دعوة الله محمد.. خديجة.. علي.. فدافوا فيه روح السماء وبثوا فيه أنفاس الدعوة.. وكانت مكة لمّا تزل عاكفة على الحجر:

(فلم تألف قريش غير عبادة أصنامها كما لم يألف من يزورها أن يرى غير ذلك في تلك الفترة وقد هال عفيف بن قيس بن معد يكرب الكندي هذا المشهد.., كان عفيف من التجار وفد إلى مكة فحج ثم التقى بالعباس بن عبد المطلب لمحادثته في أمور التجارة وفيما هو يحادثه بمنى إذ خرج رجل من خباء قريب منه، فنظر إلى الشمس، فلما رآها مالت قام يصلي، ثم خرجت امرأة من ذلك الخباء الذي خرج منه ذلك الرجل، فقامت خلفه تصلي، ثم خرج صبي من ذلك الخباء، فقام معه يصلي فوجم عفيف لهذا المشهد فقال للعباس: من هذا يا عباس، فقال: هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ابن أخي وهذه امرأته خديجة ابنة خويلد وهذا الفتى هو علي بن أبي طالب ابن عمه، فقال عفيف: فما هذا الذي يصنع، قال العباس: يصلي، وهو يزعم أنه نبي، ولم يتبعه على أمره إلا امرأته وابن عمه هذا الفتى، وهو يزعم أنه سيفتح عليه كنوز كسرى وقيصر ووالله ما على الأرض كلّها أحد على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة !!

بقي هذا المشهد في ذاكرة عفيف وشهد ما قاله له العباس على لسان الصادق الأمين فكان يتحسر أن جبهته لم تكن رابعة هذه الجباه المقدسة: (لو كان الله رزقني الإسلام يومئذ، فأكون ثالثاً مع علي بن أبي طالب).

لقد اقترن الشرف بالشرف والقداسة بالقداسة والنور بالنور والكمال بالكمال والنبل بالنبل

خديجة... الرفيق والمعين والسند والشريك لمحمد في دعوته.. وقفت بصلابة أمام طغيان قريش وجحودها وتكذيبها للنبوة, وعانت ـــ وهي ابنة العز والجاه ــ مع بني هاشم في شعب أبي طالب الجوع والمرض لمدة ثلاث سنين وقد أنهكت جسمها الآلام وأضعفت قلبها الحوادث لكن روحها بقيت تنبض بالإيمان والصبر وتزداد صلابة في موقفها المساند لزوجها العظيم يوماً بعد يوم, وما فك الحصار حتى دبّ في جسدها المرض ففاضت روحها إلى بارئها بعد ثلاثة أيام من وفاة أبي طالب فترك هذان الفقدان صدعين في قلب رسول الله وسمي بعام الحزن..

وكان هذا الحزن ثقيلاً جداً على قلب محمد... وفاطمة

محمد طاهر الصفار