الحلقة الرابعة


نبع التشيع في قلوب الأشعريين فكانوا من أقطابه وحامليه وناشريه وكان عدد كبير منهم يسكن الكوفة وانضموا إلى معسكر أمير المؤمنين (عليه السلام) في حروبه الثلاث، ومن أعلام الشيعة الأشعريين السائب بن مالك الأشعري الذي كان أحد أعمدة ثورة المختار بن أبي عبيد الثقفي المطالبين بثأر الحسين (عليه السلام)، وقد عرف بولائه لأهل البيت وصلابته في دينه وعقيدته ومن مواقفه في الدعوة إلى مذهب الحق وثباته على ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) وقوفه بوجه والي الكوفة عبد الله بن مطيع من قبل عبد الله بن الزبير الذي دعا الناس إلى بيعته بعد مقتل الحسين (عليه السلام) حيث صعد ابن مطيع منبر الكوفة خطيبا فكان مما قاله:
(أما بعد فإن عبد الله بن الزبير ــ ولقبه بإمرة المؤمنين ــ بعثني على مصركم وثغوركم وأمرني بجباية فيئكم ــ أي الأموال من الصدقات وغيرها ــ وأن لا أحمل فضل فيئكم عنكم إلا برضى منكم ووصية عمر بن الخطاب التي أوصى بها عند وفاته، وبسيرة عثمان بن عفان التي سار بها في المسلمين فاتقوا الله واستقيموا ولا تختلفوا وخذوا على أيدي سفهائكم وألا تفعلوا فلوموا أنفسكم ولا تلوموني.....).
فقام إليه السائب بن مالك الأشعري وقال: (أما أمر ابن الزبير إياك أن لا تحمل فضل فيئنا عنا إلا برضانا فإنا نشهدك بأنا لا نرضى أن تحمل فضل فيئنا عنا، وأن لا يقسم إلا فينا، وأن لا يسار فينا إلا بسيرة علي بن أبي طالب التي سار بها في بلادنا هذه.....).
وسار الأشعريون على منهج السائب في ملازمتهم وتمسكهم بأهل البيت (عليهم السلام) حتى عرفوا بالتشيّع لدى الناس والسلطة, ومنهم من نالوا درجات عالية ومنزلة سامية عند الأئمة المعصومين كما ورد في رجال الكشي (ص642) قول الإمام الصادق (عليه السلام) يصف عمران بن عبد الله بن سعد الأشعري بقوله: (هذا نجيب من قوم نجباء، ما نصب لهم جبار إلا قصمه الله)
وقال الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) لزكريا بن آدم بن عبد الله بن سعد الأشعري: (أهل بيتك ــ أي الأشعريين ــ يدفع عنهم بك كما يدفع عن أهل بغداد بأبي الحسن ــ يعني نفسه ــ) وقال (عليه السلام) أيضاً في حقه: (مأمون على الدين والدنيا).
وكان أبرز أعلام الأشعريين من أولاد سعد بن عبد الله بن مالك بن عامر الأشعري اثني عشر رجلاً من رواة الحديث عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) وكذلك من أولاد وأحفاد السائب والأحوص وقد حفلت كتب رجال الحديث بالأشعريين من أصحاب الأئمة المعصومين وقد فاق عددهم على المائة رجل.
وقد اشتهر الأشعريون بالجهر بمذهب التشيّع حتى في أشد الظروف وأقسى الفترات التي مرت على الشيعة في عهد الأمويين والعباسيين، وكانوا على اتصال مباشر معهم ويخرجون إليهم خمس أموالهم في الوقت الذي تحاشى الكثير من الموالين الجهر بتشيعه ويتقون في مذهبهم خوفاً من الحكام, كل ذلك جعل السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) تختار قم للمكوث فيها مفضلة إياها على غيرها من المدن..
معقل التشيع
ظل الأشعريون بعد استقرارهم في قم ونشر التشيع فيها على ثباتهم على تشيعهم وموالاتهم لأهل البيت (عليهم السلام)، ولم تستطع الحكومة الأموية والعباسية أن تنتزع منهم قم، فطالما قاوموا هاتين الحكومتين الظالمتين، وكثيراً ما كانوا هم من يتحكمون في الولاة ولا يدخلون من لا يرضونه منهم أرضهم، وبعد أن أصبحت قم في ذلك الوقت معقلاً من معاقل التشيع توجه إليها الكثير من العلويين الهاربين من ظلم الأمويين وجور العباسيين فكانوا يجدون مأمنهم في هذه المدينة كما يجدون الضيافة والكرم والتبجيل والتعظيم من قبل الأشعريين فيقيمون فيها، ولا تزال قبور أولاد الأئمة الكثيرة في هذه المدينة محل تبجيل وتقديس، وقد أحصيت القبور لأولاد الأئمة وأصحابهم من عظماء المسلمين في قم وضواحيها فبلغت (444) قبراً عليها القباب والأضرحة.
كم أو قم؟
قيل إن قم كانت تعرف قبل الفتح الإسلامي للبلاد الفارسية بـ (كم) بفتح الكاف وكانت قرية صغيرة تقع في محل قم الحالية ومعنى (كم) باللغة الفارسية (القليل) ولما فتحت أطلق عليها العرب اسم (قم)، وقيل: إنه كانت بمحل مدينة قم الآن سبع قرى متجاورة تسمى أحدها (كمندان) بضم الكاف وحينما استولى حل بها العرب واستوطنوها وعمرت اتصلت هذه القرى ببعضها وزالت الحدود فيما بينها وغلب عليها اسم (كم) ثم عربت إلى (قم).
وقد اكتسبت قم قدسيتها بعد أن ضمّت بضعة من قلب الرسول (صلى الله عليه وآله)، وغصناً من أغصان البتول (صلوات الله عليها) وهي السيدة الطاهرة فاطمة المعصومة بنت الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليهما السلام).


محمد طاهر الصفار