بعد يومٍ محمّلٍ بالرّصاص، افترش منتظر الرّمال على أملٍ أن يفوزَ بقليلٍ من السكينة، احتضن سلاحه واقتنع بما تجود به الدقائق القليلة عسى أن تزيح عنه غبار تعب الساعات التي أثقلت ظهره، وضع عينه في عين السماء ليتمكن من مطالعة وجوه المسافرين إلى الرب بدماء الشهادة وهو يحدّث نفسه:

-        متى؟، وكيف؟

التفت على جانبه ووضع أنامله تحت خدّه المترّب.

دعها تأتي كما كتبها الله لكَ.

كانت ستائر التعب تغلق أجفان منتظر عنوةً الذي اعتاد أن يستفهم نفسه قبيل كل إغفاءةٍ، ويطحن نفسه برحى الهم بالحضوة بنبتة الخلود، لقد أكل القلق رأسه ولم يتخم بعد، كل شيء كان مظلمًا من حوله إلا قلبه قنديل يضيء له درب الجهاد، وصدر جرف الصخر يختنق بدخان البنادق رويدًا رويدًا.

سافر منتظر على أجنحة الضوء الأبيض حيث ذلك الرياض الذي يذيب عربات الثلج على صدره المتلهف للشهادة.

-        ما هذا؟، وأين أنا؟

كان هذا الرياض الغنّاء بمثابة عمر جديد له، ها هو خارج كيان الوجود وخطوات العجب تسير به إلى أين، لا يدري، وكلما تقدّم انشقّ له النور أكثر وأكثر ليرى ذلك الشاب العلويّ بانتظاره وفي يده كأسًا من الماء، فكان قلبه الرقيق يسبقه ويحثّ خطاه على المواصلة، كانت الدقائق قبيل اللقاء رياحًا تخفق قلبه المتعطش لمعرفته، لم يصدر من منتظر شيء سوى الصمت الذي خاط فمه وجوارحه معًا وهو يتقدّم نحوه، وفي لحظة توقف كل شيء حتى أنه شعر بأنّ أقدامه طودين راسخين في الأرض، إلا وجه ذلك العلويّ الذي غدا وكأنّه القمر في ليلة تمامه وكماله، وصوته بـ: إليّ إليّ يا منتظر وهو يقدّم له كأس الماء طمأنينة له، فكان صوته بمثابة نور شقَّ صدر الظلام، ومن حيث لا يشعر، وجد نفسه بين يدي الشاب العلويّ تكسوه حلّة من الحياء.

-        هذا لك، وغدا ألقاك.

لم يكن منتظر يستوعب ما يدور حوله غير أنّه يمتثل لكلام ذلك الشاب العلويّ ويشرب، ما إن فرغ من تناول الماء الذي نزل على صدره كأنّه غيمة مطرٍ غسلت وجه التراب، لم يصدر منه شيء غير استفهامٍ ممتزجٍ بالنشيج.

-        مَن أنت؟

-        مولاكَ عليّ الأكبر وغادر…

لم يعد منتظر يحتمل سماعَ هذه الإجابة التي نزلت عليه وكأنّها رصاصة اخترقت رأسه سلفًا.

مولاي علي الأكبر!، ليستيقظ ليجد نفسه ما زال قابعًا في مكانه ولم يغادره غير أنّه يرتعشُ فغدا يلتفت يمينًا وشمالاً كأنّه يبحث عن شيء أضاعه للتو، مختنقًا بعبرته، فهمّ بالنهوض يبحث عن محمد لا يدري أيّ خطواته الأكثر اختصارًا إليه ليخبره بما رآه فقادته رائحة الجنّة الممتزجة مع هبوب رائحة البارود وهو يرى أصحابه يتسابقون للفردوس فهم مصداقًا لقوله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾.

لقد استفاق في رأس منتظر صوت الرصاص فحمل سلاحه وروحه على راحتيه ليلتحق بصفوف إخوته خلف السواتر يتكئ على صبره ولهفته في لقاء مولاه؛ ليعود من حيث أتى إلى هناك، والمدى من حوله كصدره مختنق برائحة السواد، لم يكن لمنتظر سوى القتال والانتظار وفي عينيه سحائب الرؤى والأمل واليقين.

لقد مضت ساعات طويلة والكل منشغل بعدوه حتى بدأ الفجر يلوح في جبين السماء. لم يعد للرصاص صوتًا كأنّه يأذن لمنتظر باستراحة محارب، عاد منتظر حيث مكانه وهو ينتظر عودة محمد من الساتر الآخر لا يدري أيودّعه أم يستقبله؟، بين اللّحظة والأخرى ها هو يبصر محمدًا بابتسامته المعهودة في لقائه، قائلاً:

لقد قلقتُ عليكَ كثيرًا أيُّها الصقر، دعنا نستريح قليلاً قبيل الذهاب إلى الضفة الأخرى.

-        للضفة الأخرى!

-        بلى.

بعدَ صمتٍ دام خمس دقائق نهض محمد متوجهًا إلى الغرفة ليجهّز متطلباته فالسيارة على حين وصول.

-        منتظر لا تتأخر.

حسنًا، سأقرأ زيارة عاشوراء وأتبعكَ.

ما إن غادر محمد جلس منتظر وأخرج من فوهة جيبه المترّب كتيب زيارة عاشوراء المرّمل كجسد الحسين (عليه السلام)، فمسح التراب عن وجهه وقبّله وبدأ يرتلّ أحرّفه النورانية ودموعه تهمرُ على تلك الكلمات كأنَّ دموعه تعانقها، ما إن وصل إلى عبارة (السلامُ عَلَى الحُسَيْنِ، وَعَلَى عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ...) سمع مناداة محمد ليستعجله بالمجيء فالسيارة التي تنقلهم إلى الضفة الأخرى وصلت.

في تمام الساعة الثامنة انطلقت تلك السيارة إلى المكان الذي قررت القيادة الانتقال إليه من ذي قبل، لم يكن الطريق طويلاً ففي تمام الساعة العاشرة وعشرة دقائق توقّفت السيارة وصوت الرّصاص يشقُّ مسامعَهما ومن معهم، نزلا وكلّ شيء من حولهم كان الرصاص يخترقه، انزوى منتظر خلف أحد السواتر ومحمد على مقربةٍ منه فكانت تلكَ الساعات شديدة فرحلَ فيها ثلاثة شهداء إلى الآن، ومع كلّ رحلة شهيد كان الاستفهام يأكل رأس منتظر بـ(متى) إلا أنّ الرؤيا كانت بمثابة جرعة صبر له، وما يزال يقاتلُ ليحظى بها في وقتها المناسب.

-        ما إن دقت الساعة الخامسة والنصف عصرًا نادى محمد على منتظر:

-        عتاد، نفذ عتادي.

نهض منتظر ليكون على مقربةٍ من محمد ويناوله بعض العتاد وهو ما يزال منشغلاً بالقتال، فاستقرّت رصاصة الليل في رأس منتظر ليهوي شهيدًا على وجه الرّمال، فصرخ محمد:

-        منتظر!

ودنا منه والدموع تغسلُ وجهه المترّب ولم يشغله الرّصاص وحامله وهو يضع رأسه بين يديه ويريده أن يبصره ويكلّمه لكن الملائكة على جناح الضوء الأبيض قد سبقته وحملت صديقه إلى هناك حيث عليّ الأكبر (عليه السلام)؛ ليتحقق بذلك مراده الذي طالما شغله منذ التحاقه بالجهاد الكفائي، فرحلته من عالم الدنيا توقفت لتبدأ رحلته إلى عالم الخلود.