كانت الأيام تسير بي إلى ليلة التاسع عشر، وفي كلّ خطوة تكدّس الجمر بين أضلاعي، وترمي في فمي حجر الصمت، وأنا أقف في حيرة من أمري وسط باحة التمنّي بالعودة إلى ذلك الزمان الماضي، لأدفع لعبد الرحمن روحي ثمن سلامة رأس أبي.

حتى حلّ ظهر تلك الليلة، ليلة التاسع عشر، التي خرجتُ فيها من عقر داري لا أعلم إلى أين. سرتُ على الرمال متثاقلة بحيرتي وقلقي، أسحبُ بأذيال الهمّ، حاملةً جرحًا فوقه عباءة أحزاني، انتهت جولتي هناك، في أزقة الكوفة – دار علي – حيث ذاك الزمان.

ما أعظم هيبته وهو يقف بين يدي الرحمن، يناجي رب الأكوان بدموعٍ، لو نزلت منها قطرة، لفنيَ الوجود بأكمله، أتمَّ عبادته وخرجَ إلى عقر داره، رفع رأسه إلى السماء، وأخذ يطالعها، وأنا أنظر إلى وجهه بإمعان، وهو يقلّب وجهها ويردّد: "هي الليلة التي وعدني فيها رسول الله (ﷺ)".

كانت هذه الكلمات تصيبني بالعجز، وهو يكرّرها كلّما دخل وخرج، فدموعي النازلة تشبه دموع لقائي به، وأنا أخاطبه بقلبٍ يشتعل: "سيدي، لا تخرج، سيقتلونكَ، أنا أدري!".

هو لا يزال يقلّب خدّي السماء، وكأنّه لا يسمع صوتي غيري. ما بالك سيدي؟ ألم تسمعني؟ سيدي... وسيدي... ولا جدوى من أمري غير أني أنتظر وأراقب مشاهد أجله الآجلة.

حلَّ فجر الفجيعة، وريح المصيبة بدأت تهبّ، وبوق الأجل أخذ يصدح في أرجاء المنزل، أخذ عليّ (عليه السلام) يتجه إلى الباب، ولا حيلة لي غير أني أقف أمامه، أسرعتُ ونهضن الأوز خلفي صائحات، وأنا أصرخ: "سيدي، بالله عليكَ، عُد!".

 

فتح الباب فتعلّق مئزره به وسقط، انحنيتُ لأرفعه معه، فسقطت دموعي على يده، لكنّه لم يشعر بها، أمسكتُ بطرف ثيابه، لكنه لم يتحسّس يدي، كأنّي أمسكُ بفراغ، فرفعه عن الأرض، وبدأ يلفّه وهو ينعى نفسه.

خرج وخرجتُ أسير خلفه، كأنَّ الأرض ابتلعت من عليها في الأزقة، كلّ شيء في سبات، والليل ذئب يتربّص به، يحدّ أطرافه للنيل منه، كانت خيوط الأمل في العثور على أحدهم لمساعدتي كخيط العنكبوت.

دخل المسجد وارتقى السطح، كانت (الله أكبر) المنبعثة من حنجرته تبثُّ في مسامع الجهات سلامًا، فغدت نغمة صوته تسحبني من فيافي الشتات، وتهزم بداخلي جيش الروع، لكنّ شهقة الاحتراق لم تفارقني، أحاولُ أن أستصرخ الحاضرين بكلمات اليأس المتدلّية من ثغري، وأنا خلفه، اجتاز صفوف النائمين وهو يوقظهم للصلاة.

مع تكبيرة عليّ (عليه السلام)، أخذ الصمت يخيط فم الضجيج، وأنا ما أزالُ أوزّع نظري بين الجهات، خشية أن يجتازني الشيطان للنيل من رأس سيدي. وفي لحظة، وقف الكلام على ساقيه، وأعلن السيف عصيانه ليشقَّ رأس القمر.

عندها لم أعد أرى أو أسمع شيئًا، سوى صوته المنساب من محرابه: "فزتُ وربّ الكعبة".

أخذ الضجيج يدور في رأس المسجد، وأنا ما زلتُ واقفة كالشجرة، تكفيني تلك الدمعة المكتظة بالسؤال: كيف اجتازني عبد الشيطان؟!

نظرتُ إلى وجه سيدي، فغدا كالشمس مخضّبًا بالشفق.

كان صبح التاسع عشر ثقيلاً، والكوفة بدأت تحيك ثوب السواد، والناس بين حضور وغياب، كلّ شيء كان واقفًا على عكاز الصبر، اجتمع أطباء الكوفة، وأخذ أثير السكوني يبحثُ في زقاق رأس سيدي، كانت العيون شاخصة نحو فمه، وفي لحظةٍ ما، يبوح الطبيب والحياء يجرجرُ الكلام من ثغره: "إنه على موعدٍ مع الموت".

عندها استيقظَ البكاء مرة أخرى، وأسدل اليأس ستاره على وجوه آل عليّ.

مضت تلك الليلة، وحلّ صباح العشرين، كان كلّ شيء في وجه عليّ (عليه السلام) يوحي بالآجلة، قيود الأسى تغلُّ أقدام أبنائه، ودموعهم لم تجف بعد، كلماته الموحية بالفراق، والخريف الذي بدأ يهزُّ أعطاف سنينه الثلاث والستين، يشعلُ النيران في قلوبهم، ويحطّم زجاج صدورهم.

 

والحال حالك، والكوفة ما تزال تجتمع عنده، للتزوّد منه بين البكاء والدعاء، يطوي النهار سجادته نحو المغيب.

نهارُ الواحد والعشرين كان مختلفًا بكلّ مقاييس الحياة، أقدام الأجل غدت تقتربُ من داره، والغم غفا على وجوه أهل البيت، والموت يقف على شرفات وجه الأب الحنون، السم غدا يسري في أوردته كنهرٍ يشقُّ طريقه في جسد الأرض، والألم فيه كمقراضٍ يقضمُ لحمًا، لكنّ أيديهم ما تزال تجوب السماء، وتجتاز كلماتهم ملائكة العرش نحو الرب ليأذن بشفاء أبيهم، لقد أدمنوا البكاء صمتًا.

دقّت ساعة الوداع، وكلام الأب سيف يحزُّ في نحورهم، فوصاياه ووداعه كانت بمثابة فأس يقطّع أغصانهم، وهم يصغون إليه، فكانت قلوبهم تتشبثُ بقميص قلبه.

لا شيء يتكلم سوى بكائهم، الذي أخذ يقطّع قلب الأب المسافر في مساء هذه الليلة.

وبعد أذان المغرب تحديدًا، قُصم ظهر السماء، الأب ارتشف من كأس الأجل، جُرّدت ألوان الحياة من عينيه، مدّد رجليه، ووجّه وجهه شطر الإله متشهدًا، وفاضت روحه الطاهرة لتعانق الأحبة في العلياء.

في تلك اللحظة، أغرز الأنين ندبه في قلوبهم، وضجّت أفواههم بالصراخ: (لقد ماتت الدنيا في أعينهم).

وأنا لا أدري ما أفعل، أأغضُّ الطرف عن وجه سيدي الغافي في أحضان ولده الحسن، وهو يقبّله ويودّعه بقلبٍ مكلوم؟ أم أواسي سيدي الحسين، الذي صار كالمتحجّر؟ أم سيدتي زينب، التي استحمت بدموعها، وهي تصرخ: (أبي علي)، ولم يوقظ صوتها أباها الراقد في أحضان ابنه الأكبر؟

أم أتّجه إلى مولاتي أم البنين، التي غدت كجسدٍ غادرته الروح توًّا؟ أم أسترقُّ النظر إلى وجه القمر، الذي بدا ينزفُ ضياءً؟

كلّها كانت مشاهد تجلدُ ظهر روحي بسياط الألم، وأنا أصرخ معهم: (سيدي علي!)

حتى استيقظتُ على صوت أختي وهي تناديني للإفطار: (سماء! حان وقت الإفطار، استيقظي).