مريرة هي، تستنزف منك الكثير من الوقت، ثم تمضي صعوبتها تاركة وراءها كمًا كبيرًا من الوعي والإدراك، فبمجرد أن تمر عليها مدة من الزمن، تدرك مدى تهويلك لتلك المشكلة وكم أهدرت من وقت طويل في التفكير بما سيؤول إليه الموقف من توقعات تتأرجح بين السلب والإيجاب، فهل فكرت يومًا كيف ستكون حياتك بدون مشاكلك تلك، صغيرها وكبيرها؟
تخيل معي أن يومك يسير بسلاسة، تستيقظ صباحًا لتفرش أسنانك، ثم تتجه نحو مائدة الإفطار، لتخرج بعدها مرتديًا زيك الرسمي إلى دائرتك التي تخلو من كل ما من شأنه أن يعكر صفو مزاجك، تدور بك عجلة الروتين الخالية من الأدرينالين والمغامرات الخطيرة. سيمر اليوم الأول والثاني والثالث حتى تدرك أنك أصبحت أشبه برجل آلي مبرمج يعمل وفق عاداته المملة، عندها لن تكون بحاجة إلى أن تفكر إطلاقًا، وذلك لتواجدك الطويل في منطقة الخمول أو ما يُعرف بـ"منطقة الراحة"، وهي حالة سلوكية يمارسها الأفراد من خلال المزاولة المتكررة للحياة الروتينية بعيدًا عن التغييرات التي قد تتطلب جهدًا بدنيًا وفكريًا.
التساؤل الآن: متى يضطر الإنسان إلى التفكير بشكل عميق ومستمر، خارجًا من دائرة راحته هذه؟ أو هل يفضل أن تكون عملية التفكير هذه اختيارية أم عشوائية؟
ولكي نتعرف على إجابة لهذه الأسئلة، فلنتفق جزئيًا على أن أهم المحفزات لعملية التفكير هي تلك المواقف التي تختلف عما نمر به يوميًا، مثل التغيرات أو التحولات التي لم نعتد على التعامل معها، أو تلك التي لا نملك مدخلات كافية لحل ما يتعلق بها. سواء كانت هذه التحولات عرضية بسيطة أو كانت طويلة ومعقدة، فهي غالبًا ما تكون قسرية وخارجة عن الإرادات الشخصية، إما بسبب مؤثرات خارجية أو داخلية غير خاضعة للإدارة، وتعتبر هذه المواقف وسيلة لحماية الفرد من الركود الفكري القائم على الرتابة والتكرار المستمرين لمجريات الأحداث.
يمكن تشبيه هذا الضغط المسلط على الذهن بعملية "العصف الذهني"، وهي عملية إبداعية يحاول فيها شخص أو عدة أشخاص إيجاد حلول لمشكلة معينة من خلال إثارة أكبر قدر من الأفكار وتجميعها دون الحكم عليها في البداية، ثم فرزها وصولًا إلى نتائج جديدة ومفيدة. وتعد هذه الطريقة من أهم الأدوات المستعملة في التعليم والإنتاج، لأنها تعتمد على وضع العقل تحت وطأة تحدٍ غير معلوم الأمد أو النتائج، مما يرفع من جودة المحصول الفكري والعلمي، ومن المعروف أن القدرات العقلية للإنسان تتزايد كلما زاد استخدامه لها في حياته اليومية.
كما يمكن اعتبار المعيقات الاعتيادية التي يختبرها الفرد كدورات مستمرة للنمو، حيث يمر من خلالها بتدرج صعوبتها، فعلى سبيل المثال، لو تأملت في أن ما تعاني منه اليوم من مشكلات اقتصادية أو أسرية أو اجتماعية أكبر بكثير من بكائك على لعبة أو قطعة حلوى عندما كنت في الخامسة من عمرك، لربما كانت تلك الأحداث تمثل نهاية العالم بالنسبة لك في حينها. ولكن، وبوعيك الحالي، من المحتمل أن تحكم على الطريقة التي كنت تفكر بها آنذاك على أنها بدائية، أو ربما كنت تتساءل: "هل كنت بلا عقل حينها؟". وهذا أمر طبيعي تبعًا للمراحل التي يمر بها الإنسان من الوعي بعد تجربته مع مختلف مستويات الصعوبات خلال مسيرته الحياتية.
ومن وجهة نظر الإسلام، يعتبر التسليم والرضا حال وقوع المكاره من أهم دعائم الشخصية المثالية. فهي إحدى الشروط التي وضعها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للدخول ضمن صفة الإيمان، حيث قال: "لا يكمل إيمان المرء حتى يعد الابتلاء نعمة والرخاء ابتلاء". وذلك لأن المنظومة السلوكية للإنسان قد تنخفض جودة أدائها تبعًا للمشاعر السلبية المرافقة لوقوع أي مشكلة. وهذه الحالة يمكن أن يتجاوزها المؤمن من خلال عدم الإفراط في التفاعل السلبى مع ما يعيشه ويختبره.
وتعتبر درجة الإيمان مرحلة متقدمة من الإسلام، فهي تتخطى خطى العبادة الواجبات إلى استقرار معالم الإسلام في القلب وظهورها في الجوارح، فالإيمان يظهر في سلوكيات الإنسان وأخلاقه تحت مختلف الظروف، ولا تكتمل هذه الجزئية إلا عندما يكون الابتلاء من الأوضاع التي يفضل المؤمن وجودها في حياته، فهذه ميزة يختص الله بها مقربيه. فعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: "إنما يبتلي الله من عباده على قدر منازلهم عنده"، وبذلك، يُعطى للمؤمن الذي يعاني من الابتلاء، فرصة للبحث والسعي للتعامل الأمثل مع النعمة التي تتبع هذا البلاء، من خلال سلسلة من الدورات والغربلة التي ترفده بالمهارات والخبرات اللازمة للتعامل مع جوانب الحياة المستقبلية بحكمة وبصيرة.
وبذلك، يصبح الصابر على الابتلاء في حالة من الانغمار المستمر بالبحث والسعي، لأنه على يقين تام بأن هذا الابتلاء سيرسخ دعائم الإسلام في العقول والأرواح، كما نرى في قول عقيلة الطالبين ليزيد في كربلاء: "ما رأيت إلا جميلا"، حيث تجسد هذه الإجابة الواعية التقدير الكامل لما ستؤول إليه الأحداث.
إذن، الإنسان المؤمن يتعامل مع كل ظروفه، سواء في الرخاء أو في البلاء، بحالة من الاستعداد الدائم والتفكر المستمر، لأنه يعلم تمامًا أن الابتلاء والرخاء سيان في نظره، لأن هدفه الأسمى هو تحسين العواقب والتركيز على ما يمكن أن يقدمه هذا الابتلاء من فرص للنمو الشخصي والفكري.
المرفقات

واحة المرأة
يعنى بثقافة وإعلام المرأة والطفل وفق طرح عصري