أشعل سيكارته السادسة خلال ساعة واحدة ! وهو يتأمل في المدى البعيد نحو مواضع ومكامن العدو المواجهة لساترنا المتقدم , ثم اتكئ على السدة الترابية وبدأ يرمق بنظره الحاد قذائف وصواريخ مجاهدينا وهي تجوب السماء في مسارها الى أهدافها حيث داعش , لا يدري لماذا كان يتخيلها تزأر وكـأنها تقول : " أين أنتم ... أين أنتم ؟ قبل أن تجد غايتها في مباني الأعداء وأبدان ألياته ومعداته وأجساد أوغاده .
قطع نداء رفيقه في السلاح ؛ سلسلة أفكاره :
- أيها الحاج أبو تيسير , ما لي أجدك صامتا ولا أسمع لك همسا ؟ أخشى أن تكون نائما وقد أيقظتك .
- كلا يا أخي يا أبا علي ، ليس هذا بوقت رقاد ولا غفلة , أنها ساعة ترقب وتحفز وتهيؤ , إنها ساعة ترصد وانقضاض , فكيف يمكن أن أجد النوم ؟ وأنّى له أن يخطر على بالي ؟
- ما شككتُ في يقظتك وإنما أحببتُ أن ألاطفك قليلا ...
- والآن ... دعنا من حديث النوم واليقظة ؛ وأخبرني عن حقيقة ما يدور في جانبنا , وهل من أنباء جديدة عن هجوم وشيك ؟
- لا والله يا أبا تيسير , لم تطرق مثل هذه الأخبار سمعي .
بدا أبو تيسير كئيبا وحزينا عند سماعه هذا الكلام , وتصنّعَ اللهو والعبث باقتلاع أدغال وحشائش الأرض وهو يتحرق لوعة وشوقا للمشاركة في أي هجمة أو تعرض لقواتنا المجاهدة على تلك الأراضي الطاهرة التي يغتصبها ويلوثها ويدنس شرفها تنظيم داعش الإرهابي , بل ويتضرم شوقا ولهفة للاستشهاد في سبيل هذا الهدف المقدس , وإلّا فلماذا تطوع للمشاركة في هذا التشكيل واستجاب لنداء المرجعية المقدس ؟ ولماذا أبت روحه ونفسه الدفينة إلّا أن تمزق كفنها ورداء تخفيها الواهن والمتهالك فتراه يحزم حقائبه وأمتعته ويعقد العزم على الالتحاق بصفوف المجاهدين ؟
تراءت له تلك الأفكار والذكريات ، وبدأ يستعيدها بل لم يكن ليعي بذهاب أبي علي الذي غادر المكان وتركه وحيداً , فأحس بوطأة الزمن وثقل الساعات والدقائق عليه ، وأستعاد شريط الذكريات مرة أخرى ساعة سماعه فتوى المرجع الأعلى بالجهاد الكفائي للدفاع عن أرض الوطن وحفظ دماء أبنائه وأموالهم وأعراضهم , فلم تكُ تسعه أرض ولا سماء دون المشاركة في هذا الواجب الشرعي , وعلى أمل الشهادة بل كان يبحث عنها ويحث الخطى إليها لعله يظفر ويفوز بها .
وأنقطع تسلسل أفكاره وتجمدت مخيلته مع صوت قذيفة متوجهة الى مواقع العدو وهي تصرخ : أين أنتم ؟ أين أنتم ؟ ليخيم بعدها سكون مطبق يحكي صمت القبور على أرجاء الموقع , ومعه أنطلق خيال أبي تيسير من جديد سارحا في عوالم من ذكريات عديدة ومتداخلة , حيث عاد الى داره بعد أن أكمل مستلزمات تطوعه واستجابته لنداء الجهاد المقدس ، حيث صغيرته رقية ذات الاعوام الخمسة عبد الباب تستقبله بابتسامتها المشرقة .
- أبي أراك عائدا مبكرا من عملك هذا اليوم .
ــ نعم , يا أبنتي العزيزة , لقد منحت نفسي هذا اليوم أجازة ، قالها وهو يضحك لها .
- ولكن هل جلبت معك الحلوى خاصتي ؟ أرجو أن لا تكون قد نسيتها .
- كلا يا عزيزتي , لا يمكن أن أنساها مطلقا , ها هي يا حلوتي
ومد يده في جيبه ليقدمها لها كما يقدم عريف الحفل الجائزة الى مستحقها , وما لبثت أم تيسير أن أسرعت لتحسم الموقف بين الأب وأبنته وتنهي هذا اللقاء بإطلاقها هذا التساؤل :
- أبو تيسير , هل هذه هي النهاية ؟ هل قمت بما عزمت عليه ؟
- بل قولي إنها البداية لحياة جديدة , حياة كريمة , حياة ملؤها الفخر والاعتزاز والكرامة .
- ونحن يا أبا تيسير ، هل فكرت في ما سيؤول إليه أمرنا بعد ذهابك ؟
- أنتم في رعاية الله وحفظه ولن ينساكم أبدا , وحاشا له أن ينسى عباده المؤمنين الصابرين , كما أني لن أدعكم هكذا , وسأترك لكم ما يصلح شؤونكم في غيابي , ولا مبرر لتذكيركِ بأن تيسير ـــ باركه الله ـــ في الخامسة عشرة من عمره أي أنه أصبح رجلا وبإمكانكم الوثوق والركون أليه , وسيكون قادرا على تسيير أمور المحل عند رجوعه من المدرسة وحتى عودتي من موقع القتال إن شاء الله , نعم ستكون وطأة الحمل عليه ثقيلة ولكن هي تجربة له , أسأل الله أن يوفق فيها .
- يا أبا تيسير لا يمكن أن أقف عثرة في طريقك وأنت تسير في درب الجهاد المقدس , وأنت تلبي فتوى المرجعية , فتوكل على الله فهو نعم المولى ونعم النصير .
تنفس ابو تيسير الصعداء وسرت نسمة باردة في كيانه , كيف لا وهو يسمع مثل هذا الكلام العذب والمشجع من زوجته الوفية ورفيقة عمره أم تيسير ، ثم خطر في ذهنه لقاءه مع أبي حسن جاره في العمل إذا التقى معه بعد ظهر ذلك اليوم عند محله أو عند ورشته فقد كان أبو تيسير يملك محلا يصدق عليه تسمية الورشة يمارس فيه اختصاصه وعمله في كافة أعمال النجارة البيتية والمكتبية , وكان هذا المحل أو قل هذه الورشة تدر عليه ما يكفي عيشه ومعيشة عائلته الصغيرة المؤلفة منه وزوجته وأبنهما تيسير وأبنتهما الصغيرة رقية , وتؤمِّن هذه الورشة لهم الحياة العزيزة الكريمة التي تغنيهم عن مسألة الناس ومد الأيدي لهم .
نعم لقد التقى مع صديقه أبي حسن فبادره الى القول :
- كيف حالك يا أبا تيسير أما زلت مصمما على التطوع ؟
- وهل يخامرك شك في رغبتي هذه , والله تعالى يقول (( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ )) .
- لا والله فأنا أعرفك جيدا منذ أكثر من ثلاثين عاما , كنت أذا قررتَ أو صممتَ على أمر فلا بد لك منه , ولا مفر منه إلا إليه , فكيف وهذه رغبة مشروعة في الدفاع المقدس عن أرض الوطن ؟ وكيف وقد عضدتها فتوى شرعية من المرجع الأعلى بل ؟ كيف وقد قال تعالى في كتابه العزيز (( انَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ )) .
كان أبو حسن صديقه المقرب وقد عرفه وخبره عندما كان في ريعان شبابه وتواصل معه حتى هذه الأيام بعد أن تجاوز عمره العقد الخامس بثمان سنين ، وقد أنتبه وغادر كل ذكرياته السابقة على أثر سيل من أصوات القذائف والصواريخ الموجهة نحو العدو , وقد بدا أن هذا السيل لا ينقطع ولا يفتر حتى لحظة واحدة مما أثار استغرابه وزاد من تعجبه وإعجابه لهذا النشاط غير المسبوق في الموقف من قبل قطعاتنا , وسرعان ما تبدد هذا الاستغراب وزال هذا العجب بقدوم أبي علي عليه وأخباره أن ما يشاهده الآن وما سيراه لاحقا هي بوادر لعملية كبرى يقدم عليها مجاهدونا لاستعادة المنطقة المقابلة من أيدي العدو , وان عليه التهيؤ للمشاركة في هذا الهجوم الواسع , فإلتمعت عيناه لهذا النبأ السار , وكان وقع الخبر عليه كبيرا ومفرحا , وراح يرقب مواقع الدواعش بعين باصرة وهي تشتعل نيرانا بفعل مقذوفات مجاهدينا .
مرت عليه الدقائق ساخنة وبطيئة حتى ورد أبو علي مرة أخرى , لكنه هذه المرة كان يستقل سيارة عسكرية ويطلب من أبي تيسير أن يستقلها معه بناءا على توجيه من آمر القوة ، فما كان منه إلا الترحيب وتنفيذ الأمر .
كانوا أربعة رجال في العجلة العسكرية وكان التوجيه المخصص لهم هو السيطرة على موقع معين والإستمكان منه ومعالجة العدو من خلاله .
وصلت عجلتهم بين شظايا القنابل وحمم النيران المستعرة الى الموقع المعين , وترجلوا منها بسرعة وبشكل مباغتَ , وأخذوا أماكنهم القتالية ليبدءوا بمعالجة الأهداف ضمن الموقع ، حيث أستطاع أبو تيسير إرداء ثلاثة من قطعان داعش والتسريع بهم الى نار جهنم , فيما أستطاع رفاقه قتل سبعة آخرين مما سهل معه السيطرة على هذا الموقع ، ولكن الحماس المنقطع النظير لأبي تيسير جعله يفرط في التقدم أكثر من الحد المقرر له دون تغطية من رفاقه فأصابته أطلاقة غادرة في صدره سقط على أثرها وهو يبتسم , وتراءت له صور عديدة ومتسارعة لزوجته وأبنته رقية وولده تيسير , ثم شاهد نفسه تجول في بستان لا نهاية له , ثم أحس بأبي علي وهو يتلمس جرحه بيده باكيا فما كان منه إلا أن ينتهره صائحا بما بقي فيه من حزم :
ـــ لماذا تبكي يا أبا علي , أنه والله الظفر الأكيد , إنها الجنة يا أبا علي , إنها الجنة , إنها الجنة .
ثم خفتَ صوته فكانت تلك الكلمات آخر ما نطق به .
عبد العظيم جاسم نفاوة
واحة المرأة
يعنى بثقافة وإعلام المرأة والطفل وفق طرح عصري