ما هي دوافعك للحياة؟ ما هي تلك التفاصيل اليومية التي تجعلك تواصل الحياة لليوم التالي وما بعده، تلك لتي تمنحك حافزاً لمعايشتها كل يوم والتي تفتح عينيك صباحاً بحماسة للاعتناء بها أو التمتع بعنايتها لك؟! لدى كلٍ منا ثمرةٌ بل ثمراتٌ من شتى الأصناف، تحجبُ عنا الهرولة إلى النهايات المحتومة وتجنبنا الهبوط إلى قاع المعاناة والبؤس، قد يتفاوت حجم هذه الثمار وأثمانها، لكنها في النهاية هي ما يبعثُ فينا آمالاً دفّاقة لا انقطاع لها، مثل نهرٍ جارٍ يروي أراضٍ مجدبة حتى لا تعرف الظمأ يوماً, وجود الله وعنايته الإلهية، الأسرة، الأصدقاء، الأبناء، الطبيعة، التسليم للعدالة الإلهية، ومنها إلى تفاصيل أعمق وأعمق داخل النفس البشرية، تلك التي تجعلنا نقاوم الأعاصير الدنيوية المهلكة ونصمُد في وجهها.

 في فيلمٍ إيراني شاهدته للمرة الثانية قبل أسابيع، يضرب جذوره في أعماق الفكر، ويقدّم للمشاهد صفعة خفيفة تُثيرُ التساؤلات في رأسه لا الألم، استفهامات تذهب بالعقل وتنأى به بعيداً ليجد نفسه أمام علامات تعجب تغوصُ به في محيطات فكره وقلبه، ليُحصي النعم التي تحيطه ويعلمُ دافع الحياة لديه، إن هذا الفيلم رغم رتابة أحداثه وقلّتها، يمتلك أثراً مدوياً في نفس الرائي.

في عام 1997 قدم الإيراني «عباس كياروستامي» (مخرج سينمائي شهيرعالمي شهير).فيلم «طعم الكرز» الذي فاز بجوائز شتّى وصنع جدلاً واسعاً في أوساط النُقاد والمُتلقين بسبب نهايته المفتوحة، ولعلّ هذا أصلُ نجاح الفيلم؛ إذ أنه لم يشأ أن يقدّم وجبة مألوفة من المشاهد التي يزدردُها المتلقي دون تمحيص، بل أراد أن يحرّك ذهنيته ويشرّع له أبوابًا من النور ليبصر بها الواقع, تطلعنا الأماكن في «طعم الكرز» على قصة الإنسان العالق في أحجية الحياة باعتبار الدُنيا سجنًا مؤقتاً لا مفر منه، متمثلاً في الفيلم بشكل دائري في منتصفه جبل يمثلُ حقيقةً ثقيلة في الدائرة، يُمكنك المراوغة، مواصلة الالتفاف، الاستمتاع بانسيابية المُنحنيات بدلًا من الزوايا المدببة للمربع والمثلث التي تحصرك فيها، إنها الشكل الهندسي الأكثر دهاءً، ويكمن الشرُ فيها إنك مهما راوغت ستعود لنقطة البداية نفسها حيث لم يتغير شيء ولم يتجدد حال, تلك كانت معاناة «بديعي» بطل الفيلم الذي لا يملك الشجاعة لقتل نفسه لذا عليه أن يبحث عن رجل يقنعه بفكرة موته ويؤكد عليه أن يتفقده بعناية ليتأكد في اليوم التالي هل مات بالفعل أم لا, البطل عالق بين حب الحياة واشتهاء الموت، لكنه يريد أن يصدّر نكبته الذاتية ويُدخل أحدهم شريكاً فيها مثل جريمةٍ صامتة أو طلقةٌ من سلاحٍ كاتم، لتكون من فعل رجل غريب لا يملك الشفقة أو بالأحرى لا يجرؤ على طرح الأسئلة ويخضع أمام مغريات العرض المالي.

لقد أضاف عنصر التعتيم على خلفية بطل الفيلم وتفاصيل حياته أبعاداً أعمق لفحوى الفكرة الأساسية ، فلو كانت هنالك تفاصيل عن حياة البطل سيصير الفيلم بأكمله هو حكايته الشخصية ولو حكى لنا «كياروستامي» قصة «بديعي» سيروي رواية تأسرك مرة واحدة، لكنه يريد أن يروي شعرًا يأسرك للأبد والشعرية هنا هي سؤالك أنت كمُتلقٍ:

لو جاء لك «بديعي» يومًا بصفقة ممثالة، أو لو أخبرك شخص عزيزٌ عليك أنه يُريد قتل نفسه، ما القصة التي سوف تُلقيها على روحه ليرتد بصيراً ويُكمل حياته بسلام ؟

يدور الفيلم بأكمله حول «بديعي» الذي يلف بسيارته في متاهات مُتعرجة حول الجبال بحثًا عن رجل يبرم معه صفقة وجودية عجيبة, يعقد البطل «بديعي» العزم على تناول حبوب مهدئة بكميات كبيرة وينام في حُفرة قرب شجرة على سفحٍ ذلك الطريق الدائري الذي يواصل السير حوله في سيارته، وعلى الرجل الذي يوافق على صفقته أن يأتي في السادسة صباح اليوم التالي ليتفقده في حفرته، يُنادي عليه مرتين فإن رد «بديعي» يساعده على النهوض والخروج وإن لم يرد عليه يُهيل عليه التراب وفي كلتا الحالتين سيعود الرجل لمنزله بحقيبة مليئة بالأموال, وفي تناقض بشري صارخ وخوفٌ من الموت رغم الرغبة فيه يشدد «بديعي» في شروطه على الجميع أن يفحصوه جيدًا، ينادونه مرارًا، يهزوا كتفيه ليتأكدوا أنه مات قبل أن يهيلوا عليه التراب للمرة الأخيرة.

لم يتعمق المخرج في الخلفيات الدينية لموضوع الانتحار رغم إنه أشار لها من خلال أحد الذين يحاول «بديعي» عقد تلك الصفقة معهم، حيث يذكره بآيات القرآن الكريم التي تحرّم على المرء قتل النفس التي ائتمنه عليها ومثل هذا قوله تعالى: (ولَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين) / البقرة:195 .لكن «بديعي» لم يكن يبحث عن محاولات لإقناعه بالعدول عن فكرة الانتحار، بل كان في مرحلة القرار الجازم لفعلها.

مع اقتراب نهاية الفيلم، يجدُ بديعي رجلاً عجوزاً يدعى «باقري» يعيد عليه فكرة الصفقة، يحاول السيد استدراج «بديعي» للحديث عن مشكلته، وحين يفشل في استنطاقه يحلل: لا بد أن المشكلة إما عائلية أو تخص الديون؛ ويضيف: (كل مشكلة ولها حل). نرى هنا استمرارية حَجْبُ المشكلة، أو عدم ذكر سبب قرار «بديعي»، وغياب أي خلفية اجتماعية أو أسرية عنه يعطي الأولوية لطريقة الحل متمثلة في تجربة «باقري» السيد العجوز.

 يبدأ الرجل العجوز بسرد قصته حين حاول الانتحار وهو شاب وكيف ذكّره طعم ثمرة الكرز، رغم بساطتها، بحلاوة الحياة, قال إنه أراد قتل نفسه مرة بربط حبل في شجرة كرز ولكنه لم يُفلح، ثم بعد ذلك تسلق الشجرة يائساً قانطاً، التقط ثمرة كرز وأكلها، وأذهبت لذتها عقله، تناول أخرى فأخرى حتى أشرقت الشمس وانبلج الصباح ورأى الأطفال في الطريق لمدارسهم يطلبون منه بلطف أن يهز الشجرة لتُساقط عليهم ثمر الكرز اللذيذ، هز لهم الشجرة وملأ جيوبه بالثمار وذهب بها لزوجته لتأكل منها بدورها ويُسعد الجميع، لتتغير بعد ذلك نظرته للحياة بشكل كامل, (يقول العجوز أن لا شيء في حياته تغير، لم تختف مشاكله ولا ضغوط الحياة التي جعلته يفكر بالانتحار، فقط تغيرت نظرته للأشياء). المُدهش أن العجوز الذي جاء بأكثر القصص تأثيرًا في «بديعي» (الذي يصمت لأول مرة بينما يتولى الراكب المحادثة كاملة عكس سابقيه) هو الوحيد الذي يوافق على الصفقة!.

خطاب «باقري» يضع «بديعي» أمام خيارين: الاستمرار في طريق الحياة وتجريب كرزها، أو أن يسلك طريق الانتحار, والنهاية المفتوحة تشير إلى أن «بديعي» لم يتخذ قرارًا, وعلى الرغم من أنه يتفق مع «باقري» على القدوم صباحًا، فإن رجوعه إلى مقر عمل «باقري» وتنبيهه كي يهزه وأن يقذفه بحجرين قبل أن يدفنه، يدل على تردده وعلى ترجيح احتمال اقتناعه بما قاله «باقري» بقدر ما يدل على خوفه من أن يُدفن حيًا.

إن توُقع نهاية لقصة الفيلم أمر صعب، ولذلك اختار لها «كيارستمي» النهاية المفتوحة. تنتهي القصة بلقطة للسماء وهي تتحول إلى اللون الداكن, «بديعي» ممدد في الحفرة (القبر) وينظر إلى سماء ملبدة بالغيوم, والغيوم قد تكون فأل خير بهطول المطر، وبداية مبشرة, أضاف «كيارستمي» خاتمةً ملحقة ظهر فيها مع فريق العمل, هذا المشهد الإضافي يكشف عن رسالة يوجهها المخرج للمُشاهد؛ مهمتي انتهت، لقد كنا نصنع فيلمًا، فماذا أنت صانع بحياتك؟! فالحياة هنا ليست حياة «بديعي»، إنها حياتك التي لم تنتهِ بعد، وأنت وحدك تمتلك حرية أختيار أن تجعلها سعيدة، إن وجدتَ كرزها وتذوقتَ طعمه الحلو.