قد ينوّه بلوغ مرحلة التعاطي مع مجتمع الشبكات وعوائده موضوعياً، بالحاجة إلى إعادة صياغة مؤسسية للفرد والدولة على وفق مسارين متوازيين للإفادة من هذا المجتمع، وبما يؤمّن استخداماً فاعلاً للتقانات الرقمية، لاسيما بعد ان دخلت هذه الاستخدامات يوميات الفرد عبر دلالات متعددة، منها ما ارتبط بمعالجة المضامين الثقافية، التي كانت حتى وقت قريب محددة بالنخبة المختصة، قبل أن تتعاطى معها الأوعية الرقمية، وتسهم في إشاعتها، على وفق مضامين الوسائط المتعددة، لتصل حدود من قدموا أنفسهم بمسمى المثقفين الجدد، وصاروا يؤثرون بمستوى الذائقة الثقافية المحلية، بل وفي إعادة تشكيل القيم الثقافية السائدة في المجتمع العراقي!

إشكالية الإشهار

مع حاجة الثقافة إلى أدوات للإشهار، في مسعى قيامها بأدوارها في المجتمعات، وفي مقدمتها وسائل الإعلام التي يفترض انها تعكس الواقع الثقافي الذي تعيش فيه، كما أنها لها الأثر الكبير في الثقافة نفسها بوصفها السلوك المكتسب لأعضاء المجتمع، وهو ما توصلت إليه الدراسات التي تناولت تأثير وسائل الإعلام على ثقافة المجتمع على المدى البعيد، بتأكيد تلك الوسائل لمعايير اجتماعية قائمة أو محاربة قيم وسلوكيات معينة كانت سائدة وإبدالها بأخرى، وإذا كانت الثقافة هي المسؤول الأول عن خصوصية وملامح أي مجتمع، فإنها من دون الإعلام ما هي إلا دائرة مغلقة على نفسها، مثلما أن الأعلام لا قيمة له من دون الثقافة.

ونظراً للمميزات التي أخذ ينفرد بها مجتمع الشبكات، أثارت مضامين الأوعية الرقمية نقاشاً وحواراً كبيراً في الأوساط النخبوية رأى المتخوفون منها أن في تمكنها من منافسة الوسائل الإعلامية التقليدية في مجال قيامها بوظائفها الثقافية في ظل العشوائية الرقمية التي نعاني منها، الى الحد الذي قد يقضي على تلك الوسائل التقليدية تماماً بمرور الزمن، حيث يتوجه الجمهور إلى المجال الرقمي للحصول على المعلومات.

ومع تلك المخاوف، تزداد التحديات التي تواجه ثقافاتنا، لاسيما بعد ان صارت الفجوة الرقمية ظاهرة لا يمكن تجاهلها، حين أمست مشكلة متعددة، وليست تقنية في كامل أركانها، وإنما ثقافية واجتماعية، فبقدر ما يحتاج تضييق الفجوة إلى توفير الوسائل الفنية، تكون به حاجة إلى نوع من الابتكار الاجتماعي، في وقت تجد فيه الدراسات العربية ضرورة توسيع الوجود العربي على شبكة الانترنت من مظهري اللغة وفي المواقع التي تخدم الواقع العربي.

وتُمسي بذلك التكنولوجيا ممارسة تطبيقية تُعنى بوسيطة، أكثر من كونها نظرية من نسج مجتمع لآخر، إذ تستهدف سد ثغرات القدرة الفردية التي تشوبها تطلّعات مؤازرة النهضة والتحديث فطرياً، وبما يعمل على تطوير العلم ذاته وحوليّاته، الذي كان الفرد نفسه هو من أرسى أسسها، ويعود بآثاره على نواحي الإيفاء باحتياجات المجتمع ومتطلباته المُستجدة على الدوام، الذي يواصل ذاك الفرد فيه عمليات تنشئته ويتواصل معها، الأمر الذي ينوًه بسمو هذا التكامل، بين الفرد بقدراته ومهاراته، وبين التكنولوجيا بوسائطها وعوائدها، وبما يعمل على تنمية المجتمع، بأفراده وتقاناته على حد سواء.

إن مواجهة الإشكاليات المرتبطة بالجاهزية المنقوصة، تكون أشبه بركائز ديمومة المجتمعات الحديثة، عن طريق التحضير للبيئة الاجتماعية والنفسية والثقافية، الراعية لتعاملات مكوناتها البشرية والمؤسسية، مع مُستجدات تحديث المجتمعات التقليدية، بما فيها تطوير مهارات المنتفعين منها، وسلوكياتهم الوظيفية المتنوعة، بإعادة تنشئة تلك البيئة، على وفق مُستجدات التحديث ومتطلباته، الذي يقضي بعدم جواز تحديده في مجالات التحضير للبيئة التقنية فقط، ومديات الجاهزية الحاسوبية الإحصائية، ومعادلاتها الرياضية والنسبية، (من قبيل: عدد المنتفعين من تقانات الاتصال الحديثة، نسبة إلى جموع السكان، أو فئاتهم العمرية، أو الدراسية، أو الوظيفية، أو الجنسية.. وغير ذلك).

لقد هيّأت هذه المُساجلات لظروف الفردنة، وسمو الذات الفردية، وشخصنة المواقف والأحداث، والتشدد نحو تلك الذات، واتجاهاتها، على حساب المصالح العامة، في وقت كان يُنتظر أن يُهيئ فيه انبثاق بوادر البيئة الإلكترونية المعلومات مجالاً واسعاً للتواصل الإيجابي، والانفتاح نحو الآخر، إلى جانب تنمية القدرات المعرفية للأفراد، وتطوير قابلياتهم، وتحديث مجتمعاتهم، وقد عاد ذلك بآثاره على تحديد مجالات الإفادة من القراءة الإلكترونية، وبما يتطلب حلولاً ناجحة لإعادة توظيف هذه المجالات وفقاً للسياقات النافعة.

تفيد الدراسات بأن الفرد: "يتذكر 10% مما يقرأ، و20% مما يسمع، و30% مما يرى، و50% مما يسمع ويرى، و70% مما يقول، و90% مما يقول ويسمع"، في إشارة لا تحيد عن مسار الحقيقة بأهمية التفاعلية الاتصالية التي وفرتها الأوعية الرقمية.

وبعد كل تلك المدة.. يبقى على عاتق القائمين بصياغة مرامي تحديث المجتمعات وتنميتها مسؤولية الولوج في نواحي الإعداد للبيئة الرقمية المتكاملة، والوقوف عند مديات جاهزيتها أولاً، ومناحي الإفادة من تلك الجاهزية على وفق النهج القويم ثانياً، بوصفها من المسلّمات التي تنأى بنفسها عن أي مسعى للنقض أو المناورة، لاسيما في النواحي المرتبطة بتشكيل القيم الثقافية في المجتمع العراقي.

الخلاص الثقافي

إذا كان هناك من شريحة النخبة مازال ينشغل حتى الان بضرورة التمييز بين مجتمع المعرفة، ومجتمع المعلومات، ويبنى أسس رؤاه من منطلق ان الأول كان سابقاً للثاني بقرون، فإننا نجزم بان مجتمع المعلومات، الذي هو في أساسه نتاج مجتمع الشبكات، يعزز من دواعي تحديث مجتمعات المعرفة، وإعادة تكوينها على وفق مستجدات البيئة الرقمية، ذلك أن المعرفة اعتمدت التواصل في صيرورتها ومن ثم تداول مضامينها وتلاقحها، وأن سمة التواصل الحديث تعود بنا إلى ضرورة التزام قواعد البيئة المُستجدة، لتعزيز المعرفة.

هذا الخليط، يظهر الحاجة العراقية الملحة للحاق بالظاهرة الرقمية والتعامل مع معطياتها بواقعية، ومنها ما يتعلق بالقراءة الإلكترونية نفسها، بعدّها دعامة التعرض للمضامين الرقمية الثقافية، على تباينها وتنوعها وتعدد مصادرها، ومن ثم تحديد المسار الشخصي لمعالجتها، وأن يجري الإعداد لتنشئة رقمية قويمة، تنمّي مهارات التعرض الرقمي، بالاتجاه الصحيح، وبما يُسهم في تعديل سلوكيات المستخدمين المختصة بتلقي المضامين ومعالجتها، والتعاطي معها في معادلة فكرية-ثقافية معتدلة، تنتهجها الجهات المعنية بالواقع الثقافي في العراق.