لكلِ شخص على سطح هذه المعمورة جادةٌ صائبة ينبغي عليه السيرُ فيها ليؤدي واجبه الذي خُلق لأجله، واجبه بأن يكون خير مُستغلٍ للعقل الذي أنشأه الرحمن عليه، ألّا يفعل إلا ما ترتضيه الفطرة الإنسانية السليمة، فما نحنُ إلا نتاجُ أنفسنا، لم نُخلق بعلمٍ سماوي لكننا مسؤولين عن مسيرتنا خلال أيام هذه الدنيا عن تأكيد الفرق بيننا وبين الدواب، عن تكوين أنفسنا، فليس هنالك فرق بين عقلٍ وآخر أو بين ذكر أو أُنثى؛ الاختلاف يكمن في قرار الشخص نفسه بأن يسمو بذاته، أن يرتقي بها للذُرى لا أن يهبط بها لأدنى المراتب، عليه أن يحقق لنفسه هذا الارتقاء، يقرأ، يتعلم، يُخالط أهل العلم الذين يبُثون في النفس الرغبة والطاقة للسعي والمُضي قِدماً وتجنب الأشخاص المُحبطين المثبطين للهمم.

يقول مالكُ المُلك في مُحكم كتابه الكريم: "إَّنمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ" والإشارة هُنا إلا أن العلم مرتبطٌ أشدُ الارتباط بالطريق الحق نحو تقدير الله (عزّ وجل) وخشيته في السرِ والعلن، فالمرء ذو العقل الراجح السليم يستطيع التمييز بين الحق والباطل كما يستطيع التفريق بين نور الشمس وظُلمة الليل وشتان ما بينهما.

فمن عرف نفسه فقد عرف الله و من جهلها فقد أبخس القدير حقه، فحتى ينجو الإنسان بنفسه من مهالك الدُنيا والآخرة ويترفعُ بها عن كل مَهانةٍ وقُبح كان جديراً به أن يُعمِل العقل الذي وُهب له و يملأه نوراً و يعمل دائباً كي يحارب سواد الجهل من أن يتسرب إليه. ومن صور إعمال العقل أن يعرف المرء من يُخالل ومن يتبّع، قال ﷺ: (الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ)، ولينظر كل راعٍ إلى رعيته ولتنظر كُلُ رعيةٍ إلى راعيها، هل يُنصف أحدهما الآخر؟ وهل يحقق عاملاً لجذب مزيداً من الأتباع للسير على هذا الطريق القويم؟ وهل يُستقى من هذا النبع فيُثمر وينشر خيره في المجتمع أم يتحيز تحيزاً أعمى ويثيرُ روح العِداء والتعصب؟

تعِجُ دُنيا اليوم بجماعاتٍ لا حصر لها، قادةٌ من كل صنفٍ ولون، زعماء، شيوخ، سادة، ذوي مناصب سياسية، وجهاء عشائر، أصحاب فكر تنويريّ، مترأسي حركة فكرية أو ثقافية، مؤثرين في وسائل التواصل الاجتماعي، كتّاب، أدباء، رسامين، مدعيّ امتلاكهم لكرامةٍ إلهية، وآخرين غيرهم كُثر، من بين كل المعايير العديدة التي تتوفر لتقييم هؤلاء والحُكم بصلاح رؤيتهم أم فسادها، كنتُ على المستوى الشخصيّ أنظر لأتباعهم، لتأثيرهم على تقويمهم الأخلاقي والفكري، فما كانت لتقوم للإسلام قائمة لو لم يتأثر أتباع النبي محمد ﷺ بحُسن أثره ورُقيّ أخلاقه، كما لم يحصل مع بني إسرائيل رغم إن نبيّهم كان كليم الله! ولم يحصل مع أنبياء آخرين قد بلغوا من الرِفعة والقُرب الإلهي مبلغاً عظيماً.  

إن انصاف المتُبعِين لأي شخص أو فكر أو مؤسسة، يكمن في طريقة تقويمهم لأنفسهم وحرصهم على عكس الصورة الأمثل عن هذا المُتَّبَع أو الفكرة التي يتم اتباعها، كما يحصل حين ينتمي الفرد لمؤسسةٍ ما، أو عائلة مرموقة، أو مدرسة، هنالك دائماً حرصٌ على سُمعة المنشأ، لا يحتمل المرء أن يُهان بذكر أصله أو عائلته، سيقبل أي إساءة شخصية ما لم تمس أو تلقي اللوم على أصله أو عشيرته أو ذويه. وكذا الأمر حين يُساء لطالب بتشويه سمعة مدرسته ومدرسيه وكان هو ذاته السبب في فشله وتحصيله العلمي المتدني، فأي لومٍ يقع على المؤسسة تلك سيصيبه بنوعٍ من تأنيب الضمير، وهلُم جراً، يمكن تطبيق الأمر على كل أبعاد المجتمع، ولذا فإنه من اليسير إثارة غضب الرجل بتقليل شأن عائلته والتسبب بخلق فوضى عارمة عند عامة الشعب بالشتم أو التطاول على المُتَّبع الذي يؤمنون بجدوى قيادته.

إن الحفاظ على سمعة هذا المُتَّبع أو ذاك لا يقتضي الغضب والدفاع المستميت والدخول في جدالات لا نهائية لإثبات صحة وجهة نظر هذه الفئة أو دحض رأي أخرى، يكفي بأبسط الأحوال تجسيد أسبقية وعلوّ خُلق ذاك الشخص عن طريق التأسي بسيرته والامتثال لرجاحه عقله. 

لم يركز الدين الإسلامي على النبيّ الأكرم بمعزلٍ عن المسلّمين به، بل حرص وهدف بشكلٍ أساس على جعل المسلمين هم الداعين له بحُسن فِعالهم، وشدد النبي الحكيم بدوره على تعزيز مبدأ الخُلق الرفيع والتعاملات الاجتماعية الصحيحة من خلال مبدأ أن كل مسلمٍ هو راعٍ وله رعيّة "أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ"، وأن أي فعل يقوم به سيكون له آثاراً على الفرد ذاته ومن حوله، فلا تحرق النار صاحبها فقط إذا ما نشبت واضطرمت بل تمتد لتأكل كل ما تجده في طريقها.