في علم الاتصال وككل العلوم تبدأ تساؤلات وافتراضات تبنى في الاغلب على الملاحظة، وعلى الرصد الاجتماعي للظواهر، ولنمط العلاقات التي تتآزر وفق التفاعل بين الافراد والجماعات، وقد عُنيت مجمل النظريات وتلك الافتراضات على فرضية (المثير والاستجابة) وسارت على مدارس الدعاية والتسويق والاعلام وصناعة الراي العام، باعتبارها ثنائية حتمية لكل أثر جمعي أو جماهيري على مستويات السياسة والخطاب الديني والتربوي والتاريخي وقد وضعت عناصر اساسية معروفة لغاية الآن على انها المد الخماسي لكل عمليات التواصل والنقل والاستذكار الانساني منذ الخليقة ولغاية التعقيد الحالي في مجريات الذكاء الاصطناعي وآفاقه التي تقفز بجرعات هائلة التنوع والتفرد.
وعلى الرغم من (تكديس المعرفة والذاكرة البشرية والحضارية) الهائل وتلاحق الدعم، وقفزات الاحتواء الاعلامي ثم الفضائي ثم الرقمي ،التي تركت لنا عشرات الأوجاع البشرية ،مثلما تركت لنا مناحي رائعة السهولة والكلفة والشمول، تلك التكنلوجيا وتكديسها الانساني القى بظلاله وسط الضجيج ووسط التشكي والفوضى على جملة من الظواهر التي حينما نرصدها ومن ثم نفردها تُبرق لنا ماكينات وممارسات خارج نطاق الافتراض العلمي الذي بدأنا به القول (لكل فعل اتصالي وضجيج اعلامي رد فعل) حتى يمكن لرد الفعل أن يٌغذي او يُوسع دائرة الانفعالات والاستجابات، والتي تشكل منجماً لصناعة الاجناس الإعلامية والاتصالية وافكارها ورموزها الكبرى.
باختصار أغنى وأعمق نُشير الى ظاهريتين تعدان فرادة في مسار نظريات الاتصال والتأثير التي اشارت لها مجمل ادبيات ماكنات الدعاية والراي العام والاعلام الجماهيري، وتأتي تلك الظاهرتين في وقت تشهد المزيد من التوسع والانتشار والتنوع والفورية والشمول، في الاعتمادية على الاعلام ومنصاته المتعددة وبالأخص (الرقمية) وما بعدها (ونقصد الرقمية الذكية) انطلاقا من ان الفرد والجماعات تستخدمها تبعا لمسوغات أهمها:
أ- ما دامت قد توفرت أدوات الاتصال الذكية –خدمات المنصات– فتحول الفرد إلى مستهلك ومنتج ومسوق ومحلل وداعم وناقد لظواهر يراها مهمة.
ب- التقنيات الرقمية حكمت على الفرد وابل من القواعد اليومية السلوكية التي باستخدامها يصل إلى درجة الادمان، وهي في الغالب تتلاعب بمشاعره وقيمه الاخلاقية والتربوية ودرجة انتماءه للجماعات والاولية والمجتمع بشكل عام.
ت- النشر والاستطلاع في الاغلب يشير إلى درجة عالية من –التعوّد– وليس إلى انتقائية فكرية أو عقلية، بمعنى آخر رد فعل آني غير قابل للجزم ببعض الاحكام والظواهر.
ث- مبدأ (إن الفعل يساوي رد الفعل) في جانب الاستخدام الدائم للمنصات الرقمية قائم في الاغلب الأهم على –اثبات وجوده الاجتماعي– من فرح أو حزن أو مشاركة أو تفرد أو امتعاض كلها تأتي بناءً على ما يراه المستخدم ويعكسه في انتاجه المتواتر اليومي.
ج- عمليات الاستدعاء للموروث وللتاريخ بسياقه الحواري والتقليدي، أضعفته استخدامات المنصات وردود الافعال المجزأة بشكل واضح وخطير في ظل غياب التربية الرقمية وانعاش الموروث.
ح- الأطفال والمراهقين في الغالب غارقون في نتاجات، تعملها شركات فنية واعلانية للتسويق وانعاش السوق، وقد دفعت الدول الاسلامية والشرقية بشكل عام ثمن فقدان أو شح الهوية واللغة في مجمل مضمون نقل وتداول المعرفة، في ثنايا شبكات التواصل والعالم السيبراني بشكل عام.
كل تلك المظاهر والسلوكيات قد أنذرتْ مجمل قطاعات التربية والطفل والأسرة بتراكم خطورة فقدان الذاكرة الحية والرمزية والحضارية للشعوب، وحسناً فعلت بعض الجمعيات والتكوينات الثقافية من أن تعمل للأجيال وبالخاص الأطفال والتلاميذ (موسوعات رقمية مبسطة) للتعرف على ماضي البلاد بشخوصه ورموزه وكل ما يتعلق بهويته.
الفارق هنا لدينا ونحن نتحدث عن ظاهرتين خارج النطاق ربما هما (ذات أواصر متنافرة) بافتراض أن الأولى قد أضعفت الثانية، لكن واقع الحال والميدان يعكس رفض فرضية (المثير او المنبه المحوري)
الظاهرة الأولى: كورونا وافتراضاتها في الاتصال قد قلبت موازين سلّم التصاعد والاعتماد على المنصات وعلى الطرق المعتادة للتبادل الانساني، فقد ركن الناس بجميع ثقافاتهم إلى بعض، وإلى مساحات متقاربة من الحوار وإلى انتاج لغة الكلام –لا لغة الرمز الرقمي– وعندها أيقن الجميع أن ثمة قصور وشحة خبرة في التعامل الاجتماعي والأسري في ظل عودة (الاتصال المباشر) بين الأفراد (أسرة- أصدقاء- مجموعات- اقران) عندها عادت اللغة والعادات وطرق الاتصال التقليدية إلى واجهة الاستخدام، بعد أن أعطتنا درس بليغ بالحاجة إلى (التكييف) في طرق التعبير والانصهار مع المجتمع أو العائلة أو الرأي العام، بمحورين اساسيين (محور فنون الاتصال المواجهي والآخر الرقمي) وعندما عبرنا أزمة كورونا البعض قد أفاد من الدرس، والآخر قد رجع إلى عهدت الاستسلام للتقنيات وإلى الإدمان في عالمها المتوسع والمتصاعد، أما الظاهرة الأهم والأعجب والأسمى ، والتي دوما تطيح بكل فرضيات الاتصال التي أشرت لها في البدء، وإنها سر ومنطق اتصالي يحتاج إلى المزيد من الابحاث والدراسات ليس في مسبباته –فهي معروفة وانزيمية لدى الطائفة– لكن في طرقه وتوسعه وفنونه التي تتغذى وتتوسع سنوياً.
الاستذكار الحسيني: ما يحصل في محرم الحرام من استذكار لواقعة الطف الاليمة، بكل تفصيلاتها وعنفوانها بدءً باستقبال هذا الشهر بالحزن والسواد، وانتهاءً باستكمال مراسيم أربعينية الإمام الحسين (عليه السلام)، كل تلك الفوهات المتدفقة من التعبيرات، ومن فنون الاتصال ومن مهارات التحزّن والمصالحة مع الذات، كل تلك الشعائر، لها أفق جديد، ومسار علمي جدير بالرصد والدراسة والتحليل.
وتنبع تلك المسارات من فارقة، أن جميع الثقافات تحتفي برموزها التاريخية أو معاركها التاريخية أو أعيادها الدينية والوطنية، لكن ليس كما يحصل لدينا في شعائر عاشوراء، ليس من باب السبب بقدر ما يحصل من باب النتاج والشمول والكيفية والاتساع والاجماع والطرق المنقطعة النظير، هكذا اذان أبي الاحرار يطيح بكل فرضيات وعناصر ومتغيرات مشابهات التاريخ بالشكل الذي أصبحت الطف وأبطاله كالإمام الحسين وأخيه العباس (عليه السلام) وباقي عائلته ورفاقه رموز انسانية عميقة التميز في سوح التاريخ والمد الحضاري للبشرية، تمتد على وجوه وتعبيرات شوارع لندن ونيويورك ودبلن وبرلين وباريس وافريقيا والصين، باعتبارهم رموزاً للصبر والشجاعة والوجع الانساني وضحاياه.
فالرمزية الحسينية موغلة في ذاكرة الناس، وتعبيراتها طقس وامتداد سنوي تحويلي من الأجداد إلى الآباء إلى الأحفاد ، هي ليست بالضرورة أن تحمل مصفوفة متساوية ومتناغمة مع ما قبلها أو بعدها، هي عصف روحي وألم يلوك النفس والموجودات، هي عار تاريخي نواسه ونطهره بالبكاء والحزن والاسف مما جرى على سبط الرسول (صلى الله عليه وآله).
والسؤال ما الذي تحمله الشعائر الحسينية من غذاء ودفق روحي وتربوي وسلوك على العامة والاطفال والشباب خصوصا؟ جواب هائل وتفسيرات ممتدة بعلم النفس والدين والاجتماع والاتصال والتاريخ ، سنويا تطعمنا الذاكرة بسيل من الخيال، متخيل جبار يتحول إلى بوصلة هائمة وعميقة بالكرم والسلام والجود والتوحد والطمأنينة المجتمعية، فما الذي تشكله تلك الشعائر في بعدها الاتصالي والاجتماعي والديني والتربوي؟
1- يتوحد الناس في مراسيم السواد والحزن وتبادل رموز العزاء وطقوسه، هنا الطفل وبالأخص في سنواته الاولى يبدأ بالاندماج الأسري والاجتماعي في المشاركة والتساؤل والتشارك، تبدأ انتعاشة الانتماء القيمية الأولى في ذاكرته باعتبارها الأهم والأكثر امتداد بالأيام والأكثر تنوعا بالطقوس والشعائر، من لباس ومواكب ومحاضرات وتقنيات اعلامية وإعلام الحزن، كلها تصبح منبهات اعتزاز ومنجم للانتماء والقوة في الذوبان الاجتماعي، كما أن المشاركة في تعبيرات تلك المراسيم -داخل الأسرة- تعطيه مدد لغوي ونفسي يشعر بقوة الشخصية وبقدره على الفعل والعطاء، لأجل اجتماعي وديني مهم وأساسي، خاصة إذا لقي ترحيباً وتشجيعاً من الأم وأفراد العائلة كما يعبر عنه هدير الناس ومشاعرهم وعدم الانزواء والعزلة.
2- تربويا: المجتمع هنا يصبح عبارة عن منظومة خدمة واستذكار وايثار، يشكل لنفسه فسحة من التناغم والتعاون والانسجام، باعتبار أن الهدف هو التجلّي مع مصاب أبي الأحرار، وهنا لابد من الاشارة إلى (التغييرات الهائلة التي تجري في الذات) فتتحول إلى طاقة تحمّل وعبور لأوجاع الحياة اليومية، فلم يعد الفقير فقيراً، والمريض مريضاً، والمغرور، والكبير، والتاجر، وقائد الرأي، الكل تنصهر بشكل عجيب وملفت لأجل السير بأيام ابي الاحرار، دون أنا أو شكوى أو نحس، هنا المحاكاة والنمذجة للصغار والشباب تصبح كالماكنة، ترنو إلى هذا التشارك وإلى كرم الجهد والمال والوقت، ليتعلم أن عطاء تلك الأيام يختلف عن عطاء المدرسة وعطاء اللعب وعطاء مساعدة الأب أو الأم...أنه العطاء الأكبر وسحق الذات ونكرانها لأجل ديني واجتماعي وتنظيمي.
فالموكب: جهد مجموعة مناطقية أم فئوية أم عامة تشكل فريقاً يتخصص أعضاءه في مهام عدة -بغرض استذكار ونصرة مصاب الحسين (عليه السلام) وبالأشكال المتعددة المعروفة، دون مقابل مادي، لكنه بمقابل نفسي ومعنوي وديني ، وقد تمتد خدمات المواكب لتتسع الى الخدمة العامة، ومناصرة الفقراء، ودعم المعوزين، وقد يشكل ضغطاً على اصحاب القرار لأجل المصلحة العامة، هنا عملية المشاركة بأي آصرة أو كيف يبدأ الاطفال والشباب، بتعلم درس بليغ الأجل وهو (الأمور الكبرى تتطلب عوناً وفريقاً وجمعاً من الناس، دون مطلب) وهذا ما يتفرع عنه بالمبادرة والتشارك والقيادة وصون الموروث ومهارات الاتصال المحلية والدينية.
3- أسريا: جود وكرم الأسر في التأسي والعطاء بمصاب أبي الأحرار، يجعل الأطفال يعيشون أجواء ومراسيم جديدة، ورمزية الحزن والاستماع إليه والتعبير عنه تعطي لأطفال الأسرة مزيداً من الانتماء الجمعي أسرياً ومجتمعياً، كما أنه يتعلّم درسا بليغاً (إن الصبر والشجاعة والعطاء يأتي بمواجهة الطغاة وأن العدل والحرية لا تاتي بالتمني)، وبالتالي سيتم الخزن في الذاكرة ويتعلم انماط جديدة من الضبط والسلوك الذي يتناغم مع الأيام الطويلة التي تلي البدء من محرم ولغاية الانتهاء من صفر.
تلك باختزال شديد مناطق شديدة الأهمية في سلوك وتعلم الاطفال احترام ومشاركة الطقوس باعتبارها، جهد حتمي جمعي مُلزم نفسياً وسلوكياً .يبقى نحن الكبار وقادة الرأي علينا أن نُلحظ بأهمية قصوى تلك الامور، وأن نصنع للأطفال والمراهقين فسحة مناسبة للتشارك واظهار مبادراتهم الحسينية بشيء من الاحترام والتقدير والتشجيع، لأنها المعادل العلمي والموضوعي للتهذيب السنوي ونمذجة الاتجاه إلى الاتصال المواجهي والجمعي، وللتخلص من عادات وادمان استخدامات المنصات الرقمية وامراضها المتعددة، فرصة كبرى للإدماج النفسي وكسر العزلة واكتشاف الخطأ لمن يشعر به، وفرصة كبرى لمن يحتاج إلى –دور– أو نشاط لم تسنح له المدرسة أو العائلة أو الظرف أن يؤديه.. إنها الشعائر الكبرى وفنون التعبير في مواسات زينب الكبرى، وأهل البيت (عليه السلام) أنها مدرسة الحسين (عليه السلام) مدرسة الجمع الانساني الحر.
المرفقات
واحة المرأة
يعنى بثقافة وإعلام المرأة والطفل وفق طرح عصري